أتينا في مقالات ثلاث سابقات على عقدة الإمامة ومحاولات الأقدمين في حلها، من الاثني عشرية إلى الزيدية، وتلك فترة سابقة لا نستطيع تسمية توظيف الدين فيها بالإسلام السياسي مثلما هو الحال في الوقت الحاضر، وإن كان الفعل موجوداً بيد الثائرين أو الحاكمين، على حد سواء، فكل منهم رفع الدين رايةً، واعتبر نفسه حاكماً أو ثائراً باسم الله، وأول من نادى بالحاكمية هم «الشُّراة» الذين شاع عنوانهم بالخوارج، وكم ظهرت ثورات في التاريخ لكن العنوان ظل محتكراً للجماعة التي ظهرت في حرب صفين (37 هـ)، واستمرت لقرون بين كر وفر. اعتبرت الإمامة عند الشيعة الاثني عشرية من أصول المذهب، ولم يعتبرها أهل السنة كذلك. يفيدنا الشيخ محمد مهدي الخالصي (ت 1963) في سبب اعتبار العدل من أصول المذهب لا من أصول الدين، وهو يرد على جماعة الشيخية (مقلدو الشيخ أحمد الأحسائي المتوفى 1826)، على أنه الجدل الكلامي مع المجبرة عن الظلم هل هو إلهي أم مسؤولية الظالم؟ وبالتالي تكون الإمامة واسطة تحقيق هذا الأصل، وبهذا فهما أصلان مرتبطان. قال الخالصي: «لم يعد علماء الشيعة العدل ضمن أصول الدين، وإنما عدوه ضمن أصول المذهب، وقالوا بأن التوحيد والنبوة والمعاد من أصول الدين، وإذا لم يعتقد أحد بواحدة منها فإنه ليس مسلماً، أما العدل والإمامة فقد عدوهما من أصول المذهب والاعتقاد بهما من خصائص الشيعة» (علماء الشيعة والصراع مع البدع والخرافات). بطبيعة الحال للمعتزلة أصول خمسة أيضاً دون الإمامة: التوحيد والعدل والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمنزلة بين المنزلتين، ومن لم يعتقد بهذه العقيدة ليس معتزلياً (انظر: الأسد آبادي، الأصول الخمسة). ما يهمنا من الاقتباس أن تحديد الأصول جاء متأخراً، على الإسلام الأول، ودافع تحديدها والإضافة عليها هو جدل المتكلمين، ومن يقرأ كتاب «مقالات الإسلاميين» للأشعري (ت 324 هـ)، وغيره من كتب الِملل والنِّحل تكون لديه الصورة واضحة. أما الأصول التي عرفت بالعقيدة السنية فهي: التوحيد والنبوة والمعاد، وهي أصول متفق عليها بين المسلمين بلا إضافة، ويختلفون في شروحها، وظل الاختلاف حول موجدها هل أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) أم الأشعري؟ وهذه الرواية تؤكد ذلك: «لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري (رئيس الحنابلة توفي 329 هـ)، فجعل يقول: رددت على الجُبّائي (أبو علي المعتزلي)، وعلى أبي هاشم (ابن الجُبّائي)، ونقضتُ عليهم، وعلى اليهود والنصارى والمجوس، وقلت لهم: وقالوا، وأكثر الكلام في ذلك. فلما سكت قال البربهاري: ما أدري ما قُلتَ قليلا ولا كثيراً، ولا نعرف إلا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل. قال: فخرج من عنده، وصنّف كتاب الإبانة فلم يقبله مِنه» (الفرَّاء، طبقات الحنابلة). ومِن بين أصول العقيدة السنية وشروحها: «السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البرّ والفاجر، ومَن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس ورضوا به، ومَن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين» (الجبرين، شرح أصول السنة). تأتي حجة هذا الخضوع لإبعاد الفتنة ومفاسد الفوضى، وأورد ابن تيمية (ت 728هـ) ما يمنع الخروج على السلطان: «كذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة، ولهذا روي: أن السلطان ظل الله في الأرض. ويُقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان» (مجموع فتاوى شيخ الإسلام)، لما فيها من فوضى وفساد. وإذا عدنا إلى ما اقتبسناه سابقاً عن الشيخ محمد رضا المظفر (ت 1963)، أحد أعمدة العلم في حوزة النجف، نجد النتيجة واحدة، فعن موسى الكاظم (ت 183 هـ): «لا تذلوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم، فإن كان عادلا فاسألوا الله بقاءه، وإن كان جائراً فاسألوا الله إصلاحه، فإن صلاحكم في صلاح سلطانكم، وإن السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم، فأحبّوا له ما تحبون لأنفسكم، واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم» (عقائد الإمامية). وبالفعل كان الالتزام، ومَن يقرأ «مقاتل الطالبيين» يفهم أن الغالب من الثائرين ليسوا من الإثنى عشرية. ما يمكن فهمه من دافع هذا الموقف هو كثرة الثَّورات، وما سُفك فيها من دماء، لهذا اتفق علماء الدين ألا يقحموا الدين فيها، حرصاً عليه وعلى الدماء، وتناقلت أحاديث نبوية في هذا الصدد، ويغلب على الظن أن أول من بثها في كتاب هو قاضي القضاة أبو يوسف (ت 182 هـ)، وكان كتاب «الخراج» بمثابة القانون الأساسي للدولة في لغة عصرنا، ما يتعلق بأحوال الرعية، من الضرائب إلى السجون، وما سماه بـ«حقوق الآدميين». بدأ تلميذ وصاحب أبي حنيفة كتابه ناصحاً الخليفة بالعدل ومخوفاً إياه بعذاب الآخرة: «أوصيك يا أمير المؤمنين بحفظ ما استحفظك الله، ورعاية ما استرعاك الله، وأن لا تنظر في ذلك إلا إليه» (كتاب الخراج). ويغلب على الظن أن تصنيف الكتاب جاء بطلب مِن هارون الرشيد (ت 193 هـ). من الأحاديث التي دونها أبو يوسف بشأن الإمامة: «إن من أحب النَّاس إليّ وأقربهم مني مجلساً يوم القيامة إمام عادل..». و«إنما الإمام جُنَّة يُقاتل مِن ورائه ويُتقى به..»، و«أيها الناس اتقوا الله واسمعوا وأطيعوا، وإن أُمِّر عليكم عبد حبشي أجدع فاسمعوا وأطيعوا» (كتاب الخراج). لم يأت هذا الحل من فراغ، ولا يجب أن يُحسب على أبي يوسف وغيره من علماء المذاهب، على أن رأيهم كان منافقةً للسلطان، فحسب قراءة المشهد، أن الثورات التي فشلت والتي نجحت، لم تُحقق العدل الذي نادت به، ظل حلماً ينتظر موجد دولة الخير الخالص بإذن الله، وهو المهدي المنتظر، عند الشيعة الإمام الثاني عشر (انظر الطوسي: كتاب الغيبة)، وعند السنة «مِن أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» (انظر: البستوي، المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار). ومن يتابع أخبار الثَّائرين الذين ثاروا بانتحالهم شخصية المنتظر، لدى السنة والشيعة، فلا تحصى. ختاماً: بعد الإطلاع على تعدد وتلاقي حلول عقدة الخلافة، عند الأقدمين، نجدها لا تقر الحاكمية السنية ولا ولاية الفقيه الشيعية، بل إن أمرها إلى الله، وكلها تتعلق بحماية الدين من السياسة والحزبية، ومن يُريد العمل في السياسة فليعمل سياسة لا ديانة.