اهتممت بموضوع الدراسات المستقبلية منذ سنوات عديدة لإدراكي أن هذا الفرع المستحدث من فروع العلم الاجتماعي سيحدث ثورة علمية في مجال السياسات الدولية وفي مجال التنمية، وبشكل أعم في ميدان تطور المجتمعات المعاصرة وسعيها إلى مزيد من التقدم. وقد بلغ حماسي لهذا الفرع الجديد منذ سنوات بعيدة أنني سعيت لتكوين جمعية للدراسات المستقبلية في إطار الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع ضمت مجموعة من أبرز العلماء الاجتماعيين، غير أنها لم تستمر للأسف لانشغال غالبية الأعضاء بمشاريعهم العلمية الخاصة. وقد بلورت اهتمامي بالدراسات المستقبلية في كتاب صدر عام 1999 بعنوان «الزمن العربي والمستقبل العالمي» (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1999)، ناقشت فيه تطور الدراسات المستقبلية في عصر العولمة. وقد اهتممت مبكراً بموضوع العولمة منذ عام 1990 حين كنت أميناً لمنتدى الفكر العربي في عمّان، حين ابديت اهتماماً بموضوع «تغير العالم» في نهاية القرن العشرين، والذي كانت علامته البارزة الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي global Information society والذي يتحول ببطء -ولكن بثبات- إلى ما يسمى مجتمع المعرفة Knowledge society . وكان لابد لفهم تغيرات العالم المعاصر أن أضع يدي على المعالم الرئيسية للحضارة الإنسانية البارزة والتي أطلقت عليها «الحضارة المعرفية»، كما عبرت عن ذلك في كتاب صدر عن دار نشر «ميريت» عام 2009 بعنوان «شبكة الحضارة المعرفية: من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي». ونظراً لاهتمامي الفكري القديم منذ عام 1990 بموضوع أهمية صياغة مشروع قومي لدفع وبلورة سياسات التنمية المستدامة أدركت بعد تتبعي لتطورات العالم المعاصر أن هذا المفهوم قد تم استبعاده لصالح مفهوم جديد بازغ هو الرؤية الاستراتيجية Strategic vision. ولذلك ركزت في كتاباتي على أهمية بلورة رؤية استراتيجية لمصر باعتبار أن هذه الرؤية ينبغي أن تحدد ملامح السياسات المختلفة للبلد في مجال العلاقات الدولية والاقتصاد والنظم السياسية والسياسات الثقافية في العشرين عاماً القادمة. قد بلغ اهتمامي العميق بموضوع الرؤية الاستراتيجية أن أخصص سلسلة مترابطة من المقالات التي نشرت وتابعها معي القراء الكرام ابتداء من 30 أغسطس 2012 حتى 15 نوفمبر 2012 وقد بدأتها بمقال عنوانه له دلالة وهو «وداعاً للحاضر ومرحباً بالمستقبل». وكنت أعني بذلك الضرورة القصوى لعدم اجترار الماضي بمراحله التاريخية وأنظمته السياسية المختلفة والإيديولوجيات التي سادته، وكذلك عدم الانغماس في مشكلات الحاضر المتراكمة والمعقدة بطريقة تفقدنا للرؤية الصحيحة. والبديل المقترح كان محاولة استشراف المستقبل عن طريق صياغة رؤى استراتيجية توضع بطريقة علمية وتخضع للحوار المجتمعي، وتصبح من بعد ملزمة لكل الوزارات التي ستتشكل في البلاد. وبناء على ذلك استعرضت بشكل مركز مجموعة من الرؤى الاستراتيجية المصرية الرائدة، بعضها كانت اجتهادات لبعض أساتذة الاقتصاد المرموقين، غير أنني اكتشفت أن لدينا في الواقع ثلاثة مشروعات كبرى حاولت الصياغة الشاملة لرؤية استراتيجية مصرية. المشروع الأول هو مشروع مصر 2020 وقد أشرف على تخطيطه وتنفيذ المشروع أستاذنا الراحل الدكتور «إسماعيل صبرى عبدالله» وزير التخطيط السابق والذي كان عالماً اقتصادياً مرموقاً تلقيت على يديه الدروس الأولى في الاقتصاد السياسي عام 1954 في كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، وكان الباحث الرئيسي لهذا المشروع الدكتور «إبراهيم العيسوي» أستاذ الاقتصاد المعروف بمعهد التخطيط القومي. وترجع أهمية هذا المشروع إلى اعتماده على أحدث المنهجيات في الدراسات المستقبلية ومن أهمها على الإطلاق صياغة عدد من السيناريوهات المتنوعة، والتي تعكس الاتجاهات السياسية والاقتصادية المتصارعة وقد صاغ المشروع خمسة سيناريوهات. الأول بعنوان السيناريو المرجعي ويمكن أن يطلق عليه «الاتجاهي أو الامتدادي»، وذلك لكونه يعتبر الوضع القائم مستمراً في خطوطه العامة. والسيناريو الثاني سيناريو «الدولة الإسلامية» (والذي حاولت بالفعل جماعة الإخوان المسلمين تحقيقه في فترة حكمها القصيرة لمصر). والثالث هو سيناريو «الرأسمالية الجديدة» والرابع هو سيناريو «الاشتراكية الجديدة» والخامس هو سيناريو «التآزر الاجتماعي»، وقد سبق لي أن نشرت عن هذه السيناريوهات مقالات تحليلية ابتداء من 25 أكتوبر 2012 حتى 15 نوفمبر 2012. ولا شك أن أهمية هذا المشروع ترد إلى ريادته النظرية والمنهجية في مجال الدراسات المستقبلية المصرية عموماً وفي ميدان وضع رؤية استراتيجية لمصر خصوصاً، وإن كان قد ركز على الاتجاهات العامة دون التطرق إلى المجالات المتعددة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويمكن القول – بعد مسح كامل لأدبيات التنمية المصرية- أن المشروع المتكامل في صياغة رؤية استراتيجية لمصر هو الذي أعده «مركز الدراسات المستقبلية» التابع لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار وصدر بعنوان «الرؤية المستقبلية لمصر 2030» دراسة استشرافية. ورئيس فريق العمل والمحرر الرئيسي هو الدكتور «محمد إبراهيم منصور» أستاذ العلوم السياسية بجامعة أسيوط والذي كان وقت إعداد المشروع مديراً لمركز الدراسات المستقبلية. قدمت هذه الرؤية «الملامح الرئيسية في 2030» والتى تتمثل كما لخصها الدكتور «منصور» وأنا أقتبس في «انتقال مصر بحلول عام 2030 من دولة نامية إلى دولة متقدمة، رائدة إقليمياً ومؤثرة دولياً، ينعم مواطنوها بجودة حياة مرتفعة». ويعني هذا أن تكون مصر دولة ديمقراطية آمنة ذات اقتصاد كفء قادر على المنافسة، وذات مجتمع معرفي ينعم بالعدالة وبجودة حياة مرتفعة، في إطار من القيم التي تحافظ على هويته الوطنية، تضمن لمصر ريادة إقليمية واندماجاً دولياً مؤثراً. والرؤية في سعيها لتحقيق أهدافها، حددت على وجه قاطع أين تقف مصر وماذا تطمح مستقبلاً من هذه الأهداف، من خلال تحديد معايير مرجعية لتقييم مدى النجاح في تحقيق الرؤية. كما تم التعرف على الفرص المتاحة لتحقيق هذه الأهداف والتحديات التي قد تعيق تحقيقها، وذلك في ضوء التوجهات العالمية وتجارب الدول الأخرى. وقد استخلصت الرؤية سياسات عامة لوضع كل هدف موضع التنفيذ. كما تم تحديد بعض المجالات الواعدة لتحقيق الرؤية، واقتراح مفهوم إعادة هندسة مصر جيو- اقتصادياً كأداة لتغيير وجه مصر المستقبل والنزول بالرؤية من سماء الحلم إلى أرض الواقع». والمشروع إذا أردنا التركيز على جوهره يركز على خمسة محاور رئيسية هي تكوين اقتصاد كفء قادر على المنافسة، وتأسيس مجتمع معرفي ينعم بالعدالة وبجودة حياة مرتفعة في إطار من القيم التي تحافظ على الهوية الوطنية، وخلق بيئة صحية تحقق أمن الموارد واستدامتها، ووضع قواعد دولة ديموقراطية ذات حكم رشيد، بحيث تكون دولة آمنة ذات ريادة إقليمية وتأثير دولي. ولا شك أن كل محور من هذه المحاور يحتاج إلى تحليل نقدي وهذا ما سنفعله في المقالات القادمة.