حين نتأمل أحوال الدول والمجتمعات المعاصرة، ونستقرئ تاريخ نظم حكمها وفلسفاتها، تبرز دولة الإمارات العربية المتحدة كواحدة من أكثر التجارب التنموية رسوخاً وشموخاً. ثم تزداد الصورة إشراقاً حين يتأمل المرء امتدادها الزمني، أو بالأحرى حين يقارن بين مرحلتين فيها: مرحلة التأسيس عام 1971 وما كانت عليه قبل ذلك، ثم مرحلتها الراهنة وما هي عليه في ظل دولة الاتحاد من نهوض حضاري يثير إعجاب العالم كله. ويقدم الكتاب الذي نعرضه هنا، وعنوانه «الإمارات العربية المتحدة.. الحكم الرشيد»، لمؤلفه الشيخ الدكتور محمد بن مسلَّم بن حمّ، لمحات كاشفة حول فلسفة الحكم الرشيد الذي مكّن دولة الإمارات من اكتساب مكانتها المرموقة على الخريطة الدولية الحالية، المكانة التي اكتسبتها بقوة العزيمة وصلابة الإرادة. وقد جاء الكتاب في مائتي صفحة توزعت على ثلاثة فصول تناولت «البدايات»، ثم «السلطة الرشيدة.. وبناء الدولة الحديثة»، ومن بعدهما «الحكم الرشيد.. ممارسات وإنجازات»، علاوة على مجموعة من الصور تؤرخ لأحداث إماراتية، ومجموعة أخرى بعنوان «الإمارات تزهو بشموخ نهضتها». وفي «البدايات» يتطرق المؤلف إلى عملية تأسيس الدولة وسط معوقات كثيرة وبيئة قاسية لا ترحم؛ إذ لم تكن هناك مستشفيات ولا مدارس ولا بنية تحتية أو مرافق خدمية. ثم جاء قيام الدولة في الثاني من ديسمبر 1971 كتصحيح لوضع الخريطة السياسية بما طبعها من فرقة وتمزق. وكان ذلك التحول إيذاناً ببزوغ فجر جديد في بناء الدولة الحديثة كنموذج ناطق بشواهد النجاح ومرتكزات القوة والتطور. ويعود الفضل الأكبر في ذلك إلى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي تمكن من استنباط صيغة سياسية حيوية، والذي يقول: «إن إيماننا بالاتحاد ينبع من تراثنا العربي الإسلامي، فقد وحّد الإسلام العربَ وجمع شملهم، وصنع منهم قوة واحدة، أمة واحدة كانت خير أمة أخرجت للناس فاستطاعت أن تهدي الأمم إلى أكمل الشرائع وأسمى القيم وأقوم الطرق لسعادة البشرية». ثم يستفيض الكتاب في شرح الفكر الوحدي المبكر لدى الشيخ زايد رحمه الله، والذي جعل من إمارة أبوظبي قوة موحِّدة للإمارات الأخرى، وتجسيداً لقوله «الاتحاد أمنيتي، وأسمى أهدافي لشعب الإمارات العربية». وإلى ذلك فقد كان قرب الشيخ زايد من الناس عاملا أساسياً في إنجاح الوحدة، وقد نبعت لقاءاته بالشعب من إيمانه بأن «نجاح أي حاكم يتوقف على عوامل كثيرة، أولها إيمانه بالشورى وديمقراطية الحكم». ولم تنته المهمة بالنسبة للشيخ زايد بإقامة دولة الاتحاد وإصدار دستورها الوطني، بل عمل على صياغة سياسات تضمن الحفاظ على كيان الدولة، وتأمين استمراريتها، وتوطيد أركانها. كما رأى أن تأسيس الاتحاد يجب أن يرافقه بناء وتنمية تتوافر لهما الإمكانات الهائلة، وأن التنمية البشرية تسبق وترافق أي تنمية اقتصادية، لذلك فقد سعى إلى الارتقاء بالإنسان في مجالات الحياة على اختلافها، وقال: «نود أن نبني جيلا صاعداً نفخر به ويكون قادراً على تحمل أعباء المسؤولية في المستقبل»، كما قال: «الثروة ليست ثروة المال، بل هي ثروة الرجال، فهم القوة الحقيقية التي نعتز بها، وهم الزرع الذي نستفيء بظلاله»، لذلك فقد أدرك أن إعطاء الألوية للإنفاق على التعليم هو ضمانة مهمة لأي نهضة حضارية ناجحة. لكنه اهتم كذلك بتنمية البنى التحتية، من طرق ومطارات وموانئ ومساكن ومشاف وشبكات اتصال.. ولاحظ منذ وقت مبكر أن الزراعة في الصحراء لا تتأتى بأساليب السقاية والري القديمين، بل من خلال نقل وسائل تقنية توفر الوقت والجهد والمال. ورغم الأهمية التي اكتستها عائدات النفط لانطلاق التنمية في الدولة الناشئة، فقد خطط الشيخ زايد لتنويع مصادر الدخل في الاقتصاد الوطني، لتشمل الموارد الاقتصادية والزراعية والصناعية والتجارية والسياحية، وذلك حتى لا يستمر الاعتماد على عائدات البترول وحدها. هذا، ويخصص الكتاب حيزاً معتبراً لدستور دولة الإمارات العربية المتحدة، والذي مثّل حدثاً هاماً في تاريخ الإمارات، وجاء ترجمة لرؤى القائد المؤسس، لاسيما فيما يخص النظام الاتحادي، والهوية العربية الإسلامية للدولة، وتثبيت الحقوق والحريات العامة. ثم إن مسيرة بناء الدولة الحديثة الناهضة والتي قادها المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد، على مدى أكثر من ثلاثة عقود، قد استمرت في زخمها واكتسبت المزيد من الارتقاء في شتى مجالات الحياة، في ظل قيادة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، وما تتسم به من عزم وإرادة ورؤى استراتيجية تضفي على المكانة المرموقة التي تتبوأها الدولة مزيداً من حيوية الحاضر وتفاؤل المستقبل، لاسيما بعد أن حققت معدلات مرتفعة في نموها الاقتصادي ونجحت في تنويع قاعدة مواردها الاقتصادية، الأمر الذي مكنها من مواجهة تقلبات الأزمة المالية العالمية. وفي هذا الخصوص يستعرض المؤلف بعض المؤشرات التنموية ذات الصلة، موضحاً أن دولة الإمارات انضمت إلى مرحلة الاقتصادات المعتمدة على الإبداع والابتكار منذ عام 2007، كما حققت المرتبة الأولى عربياً وعالمياً في كفاءة السياسة المالية في تقرير كتاب التنافسية السنوي لعام 2012، والمرتبة الأولى عربياً والخامسة عالمياً في مجال تمكين التجارة عبر الحدود في مؤشر تقرير ممارسة الأعمال لعام 2012، والمرتبة الثانية على مستوى الشرق الأوسط في تصنيف «معهد فريزر» حول حرية التجارة لعام 2012. أما في تقرير سهولة الأعمال الصادر عن البنك الدولي عام 2012، فقد حققت المرتبة الأولى عالمياً في معيار دفع الضرائب، والخامسة عالمياً في التجارة عبر الحدود، والسابعة عالمياً في سهولة الحصول على الكهرباء. وطبقاً لأول مسح دولي شامل عن السعادة تجريه الأمم المتحدة عام 2012، فإن شعب دولة الإمارات هو الأكثر سعادة في العالم العربي، كما يحتل المرتبة 17 في قائمة الشعوب العشرين الأكثر سعادة في العالم. وعلاوة على النجاحات الباهرة في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإن البرنامج السياسي لرئيس الدولة، يمضي نحو تحقيق أهدافه المنشودة في تفعيل دور المجلس الوطني الاتحادي، ودعم مشاركة المواطنين في الحياة السياسية، وذلك بعد انتخاب نصف أعضاء المجلس، وتعديل الدستور لتوسيع صلاحيات المجلس وتمكينه، واستحداث وزارة تعنى بتطوير العمل البرلماني. وكما يذكر المؤلف في صفحات كتابه، فإن تلك النجاحات والإنجازات، إنْ في مجال السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع، إنما تأتي نتيجة حتمية لحكمة قيادة دولة الإمارات الرشيدة، والتي تطمح إلى تحقيق رؤية الإمارات 2021 والهادفة إلى الوصول بالدولة إلى أن تكون من أفضل دول العالم بحلول ذلك التاريخ.. وما تلك إلا بعض التجليات العظيمة لنظام الحكم الرشيد ومزاياه الثمينة التي لا يحصيها عد ولا يحيطها حد. محمد ولد المنى ------ الكتاب: الإمارات العربية المتحدة.. الحكم الرشيد المؤلف: د. محمد بن مسلِّم بن حمّ تاريخ النشر: 2014