تتداول مقالات الرأي في الصحف القطرية مفردات متكررة مثل «التمسك بالمبادئ» و«استقلالية القرار السياسي»، و«ثمن المواقف»، وغير ذلك من شعارات ربما يكون قلمي في مقدمة من يدافع عنها شريطة أن تكون صناعة القرار القطري قائمة عليها ومتمسكة بها بالفعل لا بالقول؛ ولكن الحقيقة وتحليل شواهد الواقع يشيران إلى خلاف ذلك، فالسياسة الخارجية القطرية تحفل بكمّ هائل من التناقضات، التي لا صلة لها بالمبادئ ولا استقلالية القرار السياسي ولا غير ذلك، ولن أغوص في سرد نماذج دالة على ما أقول؛ لأنها ممارسات شائعة ومعروفة للجميع، وليس هناك ما يبرر تكرارها، فضلا عن أنني لست من هواة الضجيج الإعلامي. أنا في مقدمة الداعمين للسياسة القطرية لو أقنعتني بالمبادئ، التي تدفعها إلى هدر ثروة الشعب القطري الشقيق في تمويل الجماعات الإرهابية والعناصر المارقة الهاربة من دولها. وهل هناك مواثيق دولية أو مبادئ إنسانية لا نعرفها تلزم الدول بتمويل الحركات والجماعات الساعية إلى إثارة الفتن والاضطرابات في دول الجوار؟ وهل هناك مبادئ تدفع قادة دول ضمن منظومة إقليمية لها خصوصية واضحة إلى الانسياق وراء أناس لا همّ لهم ولا هدف سوى النيل من أمن واستقرار دولة عضو في هذه المنظومة؟ ألا يسمى ذلك تستراً على الإرهاب وتحريضاً على العنف أو إعانة عليه قولاً وعملاً، وفي أقل الأحوال هو تأييد للفكر والتخطيط والفعل والتمكين لإنجازه؟ الخطاب السياسي القطري يرتدي قناع البراءة ويتبنى لغة مخاتلة، لكنه أيضاً خطاب يورط نفسه في مواقف مخزية ومعيبة حين يحاول ارتداء قناع ملائكي ويصور الأمر كأنه استهداف للدولة القطرية! أشفق، شخصياً، على من يهدر الوقت في البحث عن مبررات لمواقف كاشفة فاضحة لا تحتاج إلى جهد كبير لفهم دوافعها وأغراضها، فعلامات الاستفهام والتعجب التي تحيط بسياسة قطر تحير العالم أجمع منذ سنوات كثيرة، وليس دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية فقط. ما تحتاج إليه السياسة القطرية بالفعل ليس حملات إعلامية، بل إنه قليل من مصارحة النفس وكثير من الوعي بحقائق التاريخ، فلكم أن تحدثونا ليل نهار عن المبادئ والاستقلالية ولكني لست، ولا غيري، مضطرين إلى تصديقكم حتى نرى سلوكاً واحداً يبرهن على صدق حديثكم. بوصلة قطر السياسية بحاجة ملحّة إلى ضبط وتوجيه، فهي تؤشر إلى اتجاهات خاطئة، ليس العيب في صناعتها، ولكن العيب في نظام القيادة والتوجيه، فصناعة القرار القطري تعاني أزمة حادة، فلا هي قادرة على تجاوز محنة الرهان الاستراتيجي الخاطئ على جماعة «الإخوان المسلمين»، ولا هي قادرة على التخلص من عبء استضافة «الجماعة» وحالة الخلط و«التوحد» بينها وبين الدولة القطرية. ما يبرهن على صحة كلامي حول بوصلة قطر السياسية، التي لم تعد تدرك الاتجاهات الصحيحة لمصالح الشعب القطري، أن الدوحة قد أهدرت فرصة تاريخية وفرها لها بذكاء الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حين قال في تصريح شهير أوائل فبراير الماضي «قطر إخواننا.. قطر أهلنا وقطر جزء من مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وأنا شخصياً لديّ علاقة مميزة مع الشيخ تميم أمير دولة قطر، ولديّ ثقة كبيرة بالشيخ تميم في أنه يرى أن مصلحة قطر من مصلحة دول مجلس التعاون». هذا الموقف التاريخي كان كفيلاً بترميم كل ما اقترفته السياسة القطرية بحق الأشقاء ولملمة أشلاء الأزمة، لكنه للأسف لم يجد آذاناً صاغية في الدوحة، ولم يذهب إلى من يفكك مفرداته ويستوعب أبعاده وأهدافه الاستراتيجية التي لم تكن لتنكر وجود أزمة، بل استهدفت توفير غطاء يحفظ ماء وجه الشقيق، تمهيداً لعودة تليق به إلى موقعه الطبيعي ومكانه الحقيقي، ولكن كل هذا ذهب أدراج الرياح بسبب التوجيه الخاطئ لبوصلة السياسة الخارجية القطرية. أدرك أن هناك فارقاً بين التصرف في السياسة الخارجية بشكل خاطئ، والتصميم على نهج سياسي نراه خاطئاً ويراه الآخرون في الدوحة صواباً، لكن حسابات الأمن والاستقرار في منطقة الخليج العربي على مر التاريخ لا تحتمل الرهانات الخاسرة والألاعيب الماكرة، فقد عانينا في الخليج طويلاً من الطيش والتهور ودفعنا، كشعوب، ثمناً غالياً من استقرارنا وأمننا لشطحات شخصية وأوهام زعامة خيالية، وليس من الحكمة في شيء ألا نستوعب دروس الماضي القريب والبعيد على حد سواء. أعتقد أنه آن الأوان كي يجلس الساسة القطريون مع أنفسهم، ولو قليلا، لمراجعة حسابات العقد الماضي من الزمن على الأقل، ليروا كيف صبرت بقية دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية على السلوك السياسي القطري، والأمر بحاجة إلى شجاعة الاعتراف بالخطأ ومحاسبة الذات، فرسالة الغضب التي انعكست في قرار سحب سفراء الإمارات والسعودية والبحرين لدى قطر، لن تعالج بمزيد من العناد والإصرار على الأخطاء، ولن تعالج بمحاولة صرف الأنظار عن شحنات الغضب التي تموج بها صدور الأشقاء بل بفهم دوافع هذا الغضب ومعالجتها. إن قراءة معمقة للمستقبل المنظور تشير إلى أن كل السيناريوهات لا تصبّ في مصلحة الشعب القطري، فليس من الحكمة أن تعيش وسط عزلة هي الأقسى والأعنف والأعمق تأثيراً، وليس من الشجاعة أن تصر على موقف ينصحك الجميع بمراجعته. لذا فالعقلانية تقتضي أن تعود السياسة القطرية إلى رشدها، وتعمل وفق معطيات الواقع وتوجه بوصلتها جيداً نحو إدراك حقيقة التوازنات الاستراتيجية والمصالح الجيوسياسية والتحالفات الإقليمية والدولية، فالمنطقة تموج بعواصف سياسية عاتية، وما يكشف عنه ذلك كله من تحولات مرتقبة في موازين القوى وما يتوقع أن تفرزه من معطيات، قد تدفع قطر ثمنها غالياً، وهذا ما لا نرتضيه للشعب القطري الشقيق، فهل تفيق سياسة قطر من غيّها وتعود إلى وعيها ورشدها وتدرك أن «مظلة» الأشقاء هي رصيدها الاستراتيجي الحقيقي؟