تعود بدايات الهجرات العربية الحديثة خارج العالم العربي إلى القرن التاسع عشر، أما أكبر تدفق لها فكان في القرن العشرين. وقد شكلت الدوافع الاقتصادية باعثها الرئيسي. ورغم وجود كتب تناولت قضية الجاليات العربية في المهجر، فإنها عُنيت بحالات محددة بعينها وافتقرت للشمول. لذلك يسعى الدكتور أحمد منيسي في كتابه «الجاليات العربية في دول المهجر.. الدور وآليات تفعيله»، والذي نعرضه هنا بإيجاز، إلى سد هذا النقص ورفد المكتبة العربية بدراسة متكاملة حول أوضاع الجاليات العربية في دول المهجر المختلفة. ويشتمل الكتاب على ستة محاور، يُعرِّف أولها بالهجرة وأنواعها، ويبحث الثاني في أسباب الهجرات العربية إلى الخارج، ويناقش الثالث التوزيع الجغرافي لهذه الجاليات، ويحلل الرابع طبيعة التحديات التي تواجهها، فيما يبحث الخامس مدى فعالية الجاليات العربية ودورها، ويتناول السادس الآليات اللازمة لتفعيل ذلك الدور. وفي مستهل كتابه يعرِّف المؤلف بمفهوم الهجرة وأنماطها، ويتطرق لظاهرتي نزيف العقول والهجرة غير المشروعة. ثم يذكر بعض الدوافع السياسية والعسكرية للهجرة العربية؛ مثل نكبة فلسطين عام 1948، وهزيمة العرب عام 1967، والغزو الأميركي للعراق عام 2003. مضيفاً أن أحداث العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي أفرزت موجات جديدة للهجرة من بعض الدول العربية، حيث أدت الحرب الأهلية اللبنانية إلى هجرة الآلاف نحو أوروبا والولايات المتحدة، كما أدت الظروف المعيشية الصعبة في دول المغرب العربي إلى نتيجة مماثلة، وكذلك الحرب العراقية الإيرانية (1980 -1988)، والظروف الاقتصادية للعراق في ظل الحصار الاقتصادي، ثم الغزو الأميركي. والواقع أن أسباب الهجرات العربية تتقاسمها عوامل الطرد التي دفعت المهاجرين العرب لمغادرة أوطانهم، وعوامل الجذب في الدول التي هاجروا إليها. ويتناول المؤلف تاريخ الهجرات العربية وأمكنة تمركز المهاجرين العرب حالياً، موضحاً أن أعدادهم تتراوح بين 20 و40 مليون نسمة، أغلبهم من السوريين واللبنانيين. ثم يفصل في تاريخ الهجرات العربية، مبتدئاً بالهجرة إلى الولايات المتحدة، والتي يقسمها إلى أربع موجات رئيسية؛ بدأت أولاها منذ أواخر القرن التاسع عشر واستمرت حتى نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1914، تلتها الموجة الثانية في الفترة بين الحربين العالميتين (1918 -1939)، أما الموجة الثالثة فامتدت خلال الفترة بين نكبة فلسطين عام 1948 ونكسة عام 1967، بينما تمتد الموجة الرابعة منذ النكسة وحتى الآن. أما الهجرة إلى أوروبا فبدأت بأعداد قليلة أواخر القرن التاسع عشر، ثم ازدادت مع توطد النفوذ الاستعماري الأوروبي في البلاد العربية. وفيما ارتفع عدد المهاجرين العرب المقيمين رسمياً في الدول الأوروبية من 1416000 نسمة عام 1982 إلى 1740000 نسمة عام 1984، فقد تضاعف ثلاث مرات بين عامي 1981 و1991، ثم أربع مرات بين عامي 1991 و1999. وفيما يخص مناطق التمركز الحالية للجاليات العربية، يذكر الكتاب أن عدد أفرادها في الولايات المتحدة يتراوح بين 1?5 مليون و3?5 مليون، يعيش ثلثاهم في ولايات نيويورك ونيوجيرسي وميشيجان وإلينوي وكاليفورنيا. وقد أسست الجالية العربية في أميركا العديد من المنظمات، لكن دورها ظل غير مؤثر حين نقارنه بدور اللوبي اليهودي هناك، وذلك لأنها لا تشكل كتلة واحدة. وينطبق الأمر على الجاليات العربية في دول الاتحاد الأوروبي، والتي يقدر عددها بنحو 2?6 مليون نسمة، أكثر من نصفهم في فرنسا. ويتطرق المؤلف لبعض التحديات التي يواجهها عرب المهجر، وأبرزها تحدي الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة، وصعود التيارات اليمنية المتطرفة المعادية للمهاجرين، وضعف انخراط الجاليات العربية في مجتمعاتها الجديدة، وتحدي الانتماءات الدينية والإثنينة التي تضعف الجاليات العربية. وكما يشرح الكتاب فإن تلك التحديات أعاقت قيام الجاليات العربية بدور مهم في خدمة أوطانها الأصلية، فلم تنجح في التأثير على الموقفين الأميركي والأوروبي لصالح القضايا العربية، بسبب افتقارها لاستراتيجية محددة، لذا كان حضورها محدوداً وغير محسوس إلى حد كبير. ويستلزم تطوير الحضور العربي في المهجر، كما يذهب الكاتب، صوغ استراتيجية إعلامية عربية لتحقيق أهداف أهمها: تقديم الصورة الحقيقية للعرب والمسلمين، الرد على دعاوى المستشرقين، تمتين التعاون مع أجهزة الإعلام والمؤسسات الثقافية والتعليمية، إتاحة الفرصة للدعاة والمفكرين العرب للدفاع عن الإسلام، دعم التواصل مع المهاجرين العرب، تصحيح الأخطاء والسلوكيات الصادرة عن بعض العرب، التوسع في بث القنوات الفضائية التي تستهدف مخاطبة المهاجرين العرب والأقليات الإسلامية، تشجيع العمل التطوعي بين أبناء المهاجرين، المواءمة بين التمسك بالقيم العربية الأصيلة ودواعي الاندماج في بلاد المهجر، دعم وصول المهاجرين العرب إلى المواقع القيادية المؤثرة، تشجيعهم على الإسهام في مشروعات التنمية في أوطانهم الأصلية، وتأهيل كوادرهم للإسهام في الخطة الإعلامية والعمل على إنجاحها. وأياً تكن المقاربات الرامية لتفعيل دور الجاليات العربية في الخارج، فإن ذلك الدور ضروري؛ سواء للدفاع عن الحقوق السياسية والمدنية لهذه الجاليات، أو لدعم القضايا العربية الرئيسية. محمد ولد المنى ------- الكتاب: أحمد منيسي الكتاب: الجاليات العربية في دول المهجر.. الدور وآليات تفعيله الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2014