يمتلك أتراك كثيرون من الإسلاميين المحافظين والليبراليين والعلمانيين بعض الأموال التي ينفقونها، ومن الواضح أنهم يستمتعون بامتيازات الزيادة الثابتة في الثروة على مدار العقد الماضي. وقد ألقت الانتخابات المحلية التي أجريت في الثلاثين من مارس الماضي بظلالها الكثيفة على الازدهار التركي الذي بدأت موجة انحساره في ظل الاستبداد المتزايد من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان المنتمي لحزب العدالة والتنمية الحاكم. وقد اكتسح الحزب الانتخابات ومن المتوقع أن يفوز بالانتخابات الرئاسية في أغسطس، وربما يترك أردوغان منصب رئيس الوزراء أيضاً بعد 12 عاماً ويخوض سباق الرئاسة. ولم تؤثر تقارير الفساد الحكومي على شعبية حزب العدالة والتنمية، على رغم أنها تتضمن شريطاً مسجلاً يحض فيه أردوغان نجله على إخفاء أموال بالملايين قبل دخول المحققين منزله. وضمن ردود الفعل الشعبية صرح أحد البائعين الجائلين بالقرب من «السوق الكبير» حيث يحتشد جموع الأتراك والسياح المختلطون في أجواء هادئة، قائلاً: «قبل عشرة أعوام لم يكن يمكنك المشي هنا في الليل طويلاً من دون أن يهددك أحد ويسرق أموالك». وربما يوضح ذلك بصورة جزئية السبب في أن الأتراك صوتوا لمصلحة أردوغان، على رغم اتهامات الفساد والإجراءات الأمنية المشددة القاسية على الشباب الليبراليين الذين احتجوا على خطط بناء مشروع تجاري على جزء من ميدان «تقسيم» في إسطنبول في بداية العام الجاري.. فقد منح تحسن الأحوال الاقتصادية غالبية الشعب الأمان والاستقرار. ومنحهم أيضاً ارتفاعاً مستقراً في المداخيل. ومنذ أن تولى أردوغان مقاليد السلطة في عام 2002، ارتفع دخل الفرد من 5900 دولار سنوياً إلى 8500 دولار. وحقق أردوغان بعض التحركات شديدة المهارة في طريق صعوده إلى السلطة، ومن ثم بات اليوم أشهر شخصية في الحياة السياسية التركية بلا منازع. وعلى رغم خصومته اللاذعة مع حليفه السابق، فتح الله جولن، الداعية الإسلامي الذي يتخذ من ولاية بنسلفانيا مقراً له، والذي يوجد لديه كثير من الأنصار في النظام القضائي والشرطة التركية، لم ينفض الناخبون عن أردوغان بشكل واسع. ورد أردوغان على اتهامات الفساد بإغلاق موقعي «يوتويوب» و«تويتر»، اللذين نشرا المحادثات الهاتفية المزعومة له مع نجله، كما أقال أيضاً المدعين العامين الذين يحققون في تهم الفساد، ويسعى الآن إلى بسط مزيد من النفوذ على المحاكم. ولكن أردوغان أحدث انقلاباً عندما بدأ وضع نهاية للتمرد الكردي في جنوب شرق تركيا، حيث هدأ القتال وأوقف إطلاق النار، وهو ما عزز رصيده بين الأتراك. ومع قرب الليل في إسطنبول، سمعت أصواتاً غاضبة تصيح «الله أكبر» في مظاهرة ضمت بضع مئات. وأخبرني ذلك البائع في الشارع -الذي حظي بفرصة لبيع مظلات بسبب هطول الأمطار الغزيرة- بأنهم متشددون يتظاهرون على خلفية قضايا خارجية. وعليه، فقد نجح أردوغان في تحويل السياسات الخارجية الإقليمية الكارثية إلى قضية محلية شعبية، إذ من الأفضل لرئيس الوزراء أن يصيحوا اعتراضاً على مشكلة خارجية تبعد مئات الأميال، على أن يعترضوا على قضايا داخلية. ولطالما كانت تركيا حليفاً مهماً في حلف شمال الأطلسي «الناتو»، ولكن الاتحاد الأوروبي رفض عضوية تركيا، وهو ما برره الأوروبيون بسجل حقوق الإنسان والديمقراطية، ولكن تركيا تعتقد أن السبب هو عنصرية الأوروبيين إلى جانب «الإسلاموفوبيا». وفي هذه الأثناء، أدار نأى أردوغان بنفسه عن واشنطن وأوروبا، والتقارب مع إيران وسوريا ونظام «الإخوان المسلمين» السابق في مصر، إلى درجة أنه انطلق إلى القاهرة في خضم الاضطرابات. ولكن ما أن سقط نظام جماعة «الإخوان المسلمين» من الحياة السياسية، حتى فقد أردوغان تحالفه. وثبت أيضاً وهم أن إيران يمكن أن تصبح شريكاً تجارياً وظهيراً في السياسة الخارجية، مع تضييق خناق العقوبات الدولية بسبب برنامجها النووي. وأما فيما يتعلق بتحسن علاقاته مع نظام الأسد، فقد تبدد ذلك مع اندلاع الحرب الأهلية التي أودت بحياة 146 ألف قتيل في غضون ثلاثة أعوام، ودفعت 800 ألف لاجئ إلى النزوح إلى تركيا. وما لبث أن قرر أردوغان -في إطار بحثه الدائم عن الشعبية في العالم الإسلامي- دعم حركة «حماس» في قطاع غزة، إذ سمح لجماعة إسلامية تركية بإرسال سفينة مساعدات اعترضتها إسرائيل في البحر في عام 2010. وقضى تسعة مواطنين أتراك أثناء الحادث، ومن ثم دخل أردوغان حالة تصعيد مع إسرائيل وخسر أنشطة التدريب والتحديث العسكري التي كانت تجري بالتنسيق بين الجيشين، كما توقف ذهاب عشرات الآلاف من السياح الإسرائيليين. ولما أن وجدوا أن المشهد الخارجي ينهار على الصعيد الإقليمي، أفاد مسؤولون أتراك رفيعو المستوى بأنهم ربما ينهون قريباً تجميد العلاقات مع إسرائيل بعد أن اعتذرت عن الهجوم على السفينة، ووافقت على دفع مبالغ تعويض. ويقدم أردوغان بالنسبة لكثير من المراقبين صورة الفارس القوي من دون جواد، والوسيط الذي أخفق في تحقيق أي شيء. ولكن مثلما نقول: «السياسة دائماً محلية»، وتنطبق هذه المقولة على تركيا، فعندما يذهب الأتراك إلى محلات الحلوى في إسطنبول ويمكنهم شراء الفطائر المحلاة من القمح والعسل والتين، فإن ذلك أهم بكثير من المغامرات التي فشلت في الخارج. والمثير للقلق بعد فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية بـ 45 في المئة من الأصوات، أن أردوغان لم يتعهد بأن يصبح زعيماً لتركيا بأسرها، وبدلاً من ذلك حذر خصومه السياسيين بأنه «سيقض مضاجعهم». _ _ _ _ _ بين باربر كاتب أميركي متخصص في شؤون الشرق الأوسط ------------ يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»