على نحو مفاجئ زار نائب وزير الخارجية الأميركي وليام بيرنز العاصمة الليبية طرابلس، يوم الأربعاء الماضي، وقابل شخصيات متنوعة خلال يومين أمضاهما هناك. وتأتي الزيارة في إطار المتابعة الأميركية للأوضاع الأمنية المتدهورة في ليبيا، وإن كانت قد تركزت على التحول الديمقراطي السلمي. ويعد بيرنز أرفع مسؤول أميركي يزور ليبيا منذ الهجوم الذي استهدف قنصلية الولايات المتحدة في بنغازي، في 11 سبتمبر 2011، وراح ضحيته السفير كريستوفر ستيفينز وثلاثة من معاونيه. وفيما أوحت للمراقبين الأحداثُ اللاحقةُ على هجوم القنصلية بأن واشنطن غير متحمسة للانخراط في تطورات الوضع الليبي الداخلي، وما يطبعه من مشاحنات قبلية ومناطقية، فإن زيارة بيرنز تدل على جدية الولايات المتحدة في التعاطي مع الملف الليبي، خاصة بعد أن بدأت تستشعر خطر انتشار الفوضى وانهيار الأمن في ليبيا، مما قد يحولها إلى ملاذ للتنظيمات الإرهابية المنكفئة من ساحات الحرب على الإرهاب. فبيرنز الذي عمل مع عشرة وزراء خارجية، في إدارات جمهورية وديمقراطية، يعد أحد أرفع الدبلوماسيين الأميركيين العاملين حالياً، وهو يتحدث اللغات العربية والروسية والفرنسية، وسبق أن عمل سفيراً لبلاده في الأردن، كما أنه مهندس المفاوضات النووية الحالية مع إيران. وقد ولد وليام جوزيف بيرنز عام 1956 في «فورت براج» بولاية نورث كارولينا، وحصل على درجة البكالوريوس في التاريخ من جامعة «لا سال» (فيلاديلفيا)، وعلى الماجستير في الفلسفة من جامعة أكسفورد. ومن هذه الأخيرة حصل أيضاً، عام 1981، على شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية عن أطروحة حول «المعونة الاقتصادية والسياسة الأميركية لمصر: 1955-1981»، والتحق بوزارة الخارجية في عام 1982 وشغل العديد من المناصب، وحصل على جوائز عدة في الخدمة المتميزة، وورد اسمه ضمن قائمة مجلة تايم لـ«50 من قادة أميركا الواعدين تحت سن الـ40»، كما ضمته قائمتها الأخرى لـ100 قيادة شابة عالمية. وتولى بيرنز منصبه الحالي كنائب لوزير الخارجية في عام 2011، بعد أن تم تأكيد تعيينه من قبل مجلس الشيوخ في 27 يوليو من ذلك العام، عقب استقالة سلفه جيمس شتاينبرج. وقبل ذلك، في 18 يناير 2008، أعلنت كونلديزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية في حينه، تعيين وليام بيرنز خلفاً لنيكولاس بيرنز (لا توجد صلة قرابة بين الاثنين) في منصب مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، وهو ثالث أعلى منصب في الوزارة، بعد أن كان سفيراً لدى روسيا في الفترة من عام 2005 إلى عام 2008، وبعد أن عمل بين عامي 2001 و2005 كمساعد لوزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، الذي تولاه بعد انتهاء مهمته كسفير لدى الأردن من عام 1998 حتى عام 2001. وقد ساهم بيرنز طوال السنوات الماضية في إدارة ملفات مهمة تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، لاسيما لجهة اتفاقات السلام، وتنسيق السياسات الرامية لمحاربة الإرهاب، وفيما يتعلق بـ«حزب الله» اللبناني، والدور الإسرائيلي في المنطقة. وقد عرف عن بيرنز انحيازه لإسرائيل، وتحديداً خلال توليه منصب مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط في الفترة بين 2001 و2005. وأدى بيرنز دوراً مركزياً في المحادثات السرية مع إيران، والتي مهدت الطريق للتوقيع على الاتفاق النووي المؤقت، الذي جمدت إيران بموجبه العمل في برنامجها النووي. وكانت أولى اللقاءات السريّة التي جمعت بيرنز بمسؤولين إيرانيين، قد جرت في مارس من العام الماضي، حين توجه إلى العاصمة العمانية «مسقط»، مع بعض مساعديه، للقاء عدد من المفاوضين الإيرانيين. كما شارك بيرنز في المفاوضات بين إيران والقوى الست الكبرى، في نوفمبر الماضي. ويصف مسؤولون أميركيون، حاليون وسابقون، بيرنز بأنه مناسب تماماً للتعامل مع الإيرانيين، بما لديه من حساسية تسمح له بتفهم وجهة نظر طهران، وصلابة تجعله لا يفرط في المصالح الأميركية. لكن الإدارة الأميركية أعلنت في الحادي عشر من أبريل الجاري إحالة بيرنز للتقاعد في شهر أكتوبر المقبل، وذلك بعد مسار دبلوماسي حافل توّجه بتوقيع الاتفاق النووي بين إيران والغرب في نوفمبر الماضي. وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن بيرنز، وهو الدبلوماسي الموثوق به من كلا الحزبين (الجمهوري والديموقراطي)، كان قد أجّل تقاعده مرتين، آخرهما بناءً على طلب من الرئيس أوباما، والذي أشاد بالدور الذي لعبه بيرنز خلال مسيرته الدبلوماسية على مدى 32 عاماً، وقال إنه «ارتكز على نصائحه الصريحة وعلى مهماته الدبلوماسية الحساسة». وأضاف: «إنه مستشار ودبلوماسي ماهر، ومثال للأجيال المقبلة من الموظفين». كما أشاد جون كيري، وزير الخارجية، ببيرنز، وقال: «كان له تأثير ونفوذ كبيران»، وهو يشكل مرجعية «في السريّة والفاعلية». ولعل تلك «الفاعلية» هي مما تحتاجه أي مهمة «وساطة» في ليبيا حالياً، وهذا ما جعل بيرنز يمهد لزيارته ليبيا بلقاءات أجرتها السفيرة الأميركية «ديبورا جونز» مع قيادات الأحزاب السياسية والمجموعات المسلحة القبلية. وفي لقاءات بيرنز لوحظ أنه كان مستمعاً أكثر مما كان متحدثاً، حيث سجل انتقادات للسياسة الأميركية تجاه ليبيا، والقائمة على تركها في مهب الريح، مع تأكيد من جانب الليبيين على رفض التدخل العسكري. ويبدو أن أكثر ملف يشغل الإدارة الأميركية حيال ليبيا هو نشاط «القاعدة»، وغياب سلطة الدولة على 75 في المئة من البلاد، ووجود حشود قوات «درع ليبيا» بالقرب من مدينة مصراته (200 كم شرق طرابلس)، وحشود مضادة داخل العاصمة لكتيبتي «الصواعق» و«القعقاع» المحسوبتين على مدينة الزنتان (جنوب طرابلس). لذلك فلعل أكثر ما يشغل أميركا في الحالة الليبية هو الوضع الأمني الراهن والاختراقات المفترضة من جانب «القاعدة»، بينما تأتي العملية الديمقراطية في المرتبة الثانية. فهل تغير زيارة «الدبلوماسي الماهر» لطرابلس استراتيجية إدارة أوباما حيال ليبيا؟ وهل تظل تراتبية الأولويات الأميركية على حالها في هذا الشأن؟ محمد ولد المنى