أستعير العنوان من رواية شهيرة عن الإسكندرية، ولكن القضية السورية تبدو أخطر الملاحم الإنسانية وغير الإنسانية في التاريخ المعاصر، حيث يعيش ملايين الناس من السوريين في عصور تشبه العصر الحجري، لا ماء، لا كهرباء، لا غاز، لا «كاز»، لا شيء من أدوات العيش الضرورية، وحتى المترفون قليلاً، ممن يملكون مولدات كهربائية لا يجدون الوقود لتشغيلها، وبالطبع، تعطلت بنى الخدمات كافة أو دمرت، لا مدارس ولا مستشفيات، وأخطر من ذلك، لا شعور بالأمن ولو للحظة تغفو بها عين طفل جائع مرهق متعب. ربما تجد مناطق صغيرة يسيطر عليها النظام تنعم بما حرم منه الآخرون، أما النازحون والمشردون واللاجئون في الداخل، والمصرون على التمسك بالخرائب لأنهم يخشون مزيداً من الذل، فهم يعيشون لأن الموت لم يأتِ بعد، وهناك من يعبرون عن البهجة والفرح بالانتخابات الرئاسية التي حرم من المشاركة فيها من خرجوا من البلاد هاربين من القصف والدمار والمتفجرات التي تنهال فوق رؤوسهم من سماوات كانت ترسل لهم المطر والرحمة والبركة. هؤلاء لم تدمغ على جوازاتهم سمة الخروج النظامية، ويبدو أنهم نسوا أثناء القصف أن يحملوا جوازات سفرهم، وربما يوجد بينهم مئات الآلاف ممن ليست لديهم جوازات سفر لأنهم لم يفكروا قط في أن يخرجوا من ديارهم ويتركوا بيوتهم وأرضهم حطاماً. على أن مشاركتهم في الانتخابات مثل عدمها، لن تغير شيئاً في النتائج، وهم لن يعتبوا على أحد، فقد مرت عقود عليهم كانوا ينتخبون فيها دون أن يذهبوا إلى صناديق الاقتراع، كانوا يكتفون بالدبكة والرقص في خيام الوطن، وفي الهتاف والغناء حتى الصباح، وهم مبتهجون فرحون لأنهم غير مطلوبين لفرع من فروع الأمن. بعد هذه المقدمة التي تدعي أنه لا أحد ينام في سوريا، لابد من الاعتراف بأن الناس تعودوا، وهذه من عجائب خلق الله للإنسان القادر على التكيف مع كل الظروف، بل إن الأطفال أنفسهم اكتسبوا خبرات أفضل من آبائهم، فهم يعرفون نوع الطائرة من أزيزها، ويفرقون بين طلقات «الدوشكا» والهاون والرشاشات ويعرفون مدة وصول الطلقة من صوتها! يا لهؤلاء الصغار الذين لم تعد تخيفهم الحرب! أنا شخصياً أعترف أنني أخاف منهم أكثر مما أخاف عليهم، هؤلاء نحو ثلاثة ملايين طفل وربما أكثر، لم يذهبوا إلى المدرسة، وتعودوا أن يأكلوا يابساً وفتاتاً، وصارت الحرب لعبتهم المفضلة، وتشييع الشهداء تسليتهم، يأتون بآلة حدباء يستلقي عليها أحد الأطفال الأقوياء، ملطخاً بلون الدم، ويحملون جثته وهم يكبّرون ويهتفون، ويقودونه إلى حفرة الشهادة التي صارت أهزوجة جيل خلق كي يقتل وليس كي يعيش. هكذا يلعب الأطفال في المخيمات بعد أن تنتهي لعبة القتال بالعصي والأسلحة المتخيلة! نعم أخاف من أن تصير الحرب مهنتهم الوحيدة، وأعرف ما سيغتلي في قلوبهم من حقد وكراهية ورغبة في الثأر، ولاسيما عند أولئك الذين قتل آباؤهم وأمهاتهم وأشقاؤهم تحت الأنقاض بسبب برميل أحمق مجنون لا يعرف أين يهوي، فيسحق ويدمر. وهم على كل حال مهملون، نظراؤهم في المخيمات الدولية أفضل حظاً لأن نجوم السينما المحليين والعالميين يسعون إليهم من أقصى العواصم فيلتقطون معهم الصور التذكارية التي تملأ صفحات المجلات التي لايرونها، ولكنهم يدركون أنهم صاروا أكثر أهمية عالمية، فالعالم كله يتفرج على أشلائهم ويتذوق طعم دمائهم. والسؤال المريع الذي لم يعد أحد يعرف له جواباً: ثم ماذا بعد؟ قد تزداد مشاعر «بان كيمون» قلقاً، وقد يقول قادة كبار إن ما يحدث في الانتخابات مهزلة، وقد يقول آخرون لابد من وجود رئيس، تصوروا حال البلاد إذا خلت من رئيس قائد، سيصير فيها عشرة آلاف قائد ورئيس في اليوم التالي، وما أدراكم ما اليوم التالي! هناك منظمات دولية تبحث عن اليوم التالي وتخطط له ولكنها لم تعرف عنوانه بعد، وهي تذكرني بإسكافي من ظرفاء إدلب كان يعلق لوحة على باب دكانه مكتوب عليها «تصليح الأحذية مجاناً يوم السبت القادم» ويتجمع الناس يوم السبت، فيضحك ويشير لهم أن الموعد هو السبت القادم! وقد اهترأت الأحذية، واعتاد الناس على المشي حفاة في انتظار اليوم التالي، وحين ذهبوا إلى جنيف ظنوا أنه سيأتي يوم الاثنين القادم حين يجتمع مجلس الأمن ليقرر أمراً مهماً يتعلق بحياة خمسة وعشرين مليون سوري، وأنا شخصياً أقول بل خمسين مليوناً، وربما يستغرب القراء، فهم يعرفون أن عدد السوريين لا يزيد عن 23 مليوناً، ولكنني أضيف لهم المغتربين في كل بقاع الأرض، وهؤلاء سوريون وأعدادهم بالملايين هاجروا هرباً من الحروب وبحثاً عن الرزق منذ مائة وخمسين عاماً ونيف، وهم يتناسلون وينجبون شخصيات قيادية، بعضهم وزراء وقادة سياسيون في بلاد الاغتراب، وبعضهم رجال علم واقتصاد، وأحدهم صار رئيساً في الأرجنتين. وهؤلاء سوريون بعضهم متمسك بعروبته، وبعضهم بات يخجل منها، ولكنهم أكدوا في مشاهد كثيرة كونهم شعباً حضارياً ذكياً لا يجوز أن يداس عنقه أو يقطع رأسه والعالم يتفرج. هذا الشعب السوري شعب الكنعانية الأصيلة في عروبتها، شعب الأموريين الذي لم تبده الحروب وإن كانت بدلت أسماءه، شعب قدم الأبجدية الفنيقية للعالم من «أوغاريت»، وقدم للبشرية أجمل حضاراتها المؤسسة، من حدد إلى بعل إلى عشتار، ثم حمل المسيحية إلى العالم من الناصرة إلى دمشق ومنها إلى كل جهات العالم، ثم حمل الإسلام وأسس دولة عظمى في التاريخ حفظت ثقافات البشرية وأضافت عليها جماع ثقافات الأمم. هذا الشعب يتفرج العالم اليوم على معاناته ومشاهد إبادته، ويقول بعض القادة الكبار، دعوهم يصفي بعضهم بعضاً آخر، والمصيبة أن كثيراً من الحمقى والمتسللين الإرهابيين، سارعوا إلى شعارات عجيبة، هدفها اختطاف أهداف الشعب الذي لم يزد كلمة على شعار «الحرية والكرامة» فلم يأتِ أحد على ذكر الخلافة الإسلامية ولم ينادِ أحد من المتظاهرين بإيقاف الزحف المقدس نحو الجولان والقدس، ولم يطالب بالزحف يومها، ولم تذكر قضية شكل الحكم فقد كان الشعار وما يزال، بناء دولة مدنية ديمقراطية، ولم يكن هدف أحد أن يحرر الأندلس، أو أن يبدأ عصر فتوحات جديداً. واليوم، لا أحد ينام في سوريا، لأن العالم نام عن قضية السوريين، وتركهم يواجهون قدرهم وحدهم على ما بينهم من صراع تحول إلى جنون، والعجب العجاب أن الانتخابات القادمة تتجاهل تقديم حلول لمآسٍ وفواجع إن لم تجد حلاً سورياً فستبقى شلالات الدم تغرق البلاد، ولن يكون بعدها مهزوم ومنتصر.