ليس جون كيري هو أول من يطلق مثل هذه النعوت والأوصاف الجارحة على دولة إسرائيل، بل سبقه إليها وزير الدفاع الإسرائيلي السابق إيهود باراك عندما حذّر في تصريح عاصف أدلى به في شهر فبراير 2010 من أن فشل عملية السلام مع الفلسطينيين سيؤدي بإسرائيل إما إلى فقد الأغلبية السكانية اليهودية، أو التحوّل إلى «دولة للفصل العنصري». وكان إيهود باراك يعني بذلك بأن التخلي عن مبدأ حلّ الدولتين، يفرض على إسرائيل القبول بأحد خيارين صعبين لا ثالث لهما، فإما أن تَمنح حقوق المواطَنة الكاملة لملايين الفلسطينيين الذين سيشكلون أغلبية سكانية مطلقة فيها، أو أن تواصل تحكمها في حياتهم ومقدراتهم، وتحرمهم من أبسط الحقوق المدنية. ولم يكن لهذه التصريحات أن تسبب أية حالة من حالات الغضب أو «الهستيريا» في أوساط شعب إسرائيل لأنها عكست حقيقة واقعة ومؤلمة يعرفها الجميع. كما أنها مقولة تداولتها ألسن السياسيين الإسرائيليين أنفسهم قبل وبعد أن نطق بها إيهود باراك. وفيما بعد، وعندما تجرأ وزير الخارجية جون كيري على التلفظ بعبارة «فصل عنصري» الأسبوع الماضي، واجه انتقاداً لاذعاً من الإسرائيليين واليهود الأميركيين على حد سواء. ولم يكن ما فعله ليمثّل أكثر من مجرد ترديد واستعادة لما سبق أن نطق به باراك بعظمة لسانه، وحذّر من المخاطر التي ستواجهها إسرائيل بمجرد الإعلان عن فشل المفاوضات المتعلقة بحل الدولتين. وقال كيري: «ستتحول الدولة الموحدة إما إلى كيان للفصل العنصري بمواطنين يهود من الدرجة الثانية، أو أن يؤدي ذلك إلى انهيار قدرة إسرائيل على الاحتفاظ بكيانها كدولة يهودية». وكانت ردود الأفعال والانتقادات اللاذعة التي واجهها كيري عقب إطلاقه لهذا التصريح الجريء، عاصفة إلى الحدّ الذي دفع به إلى تقديم اعتذاره المخزي على رغم الأشهر التسعة التي بذلها لتحقيق صفقة السلام التي آلت إلى فشل ذريع. وتمثل إسرائيل ضمن الحدود الجديدة التي قامت عقب انتهاء حرب 1967 ديمقراطية عرجاء. وفيما يمتلك فيها المواطنون العرب حق التصويت في الانتخابات، إلا أن الضفة الغربية المحتلة التي تضم ما يربو عن 2,5 مليون فلسطيني، تعيش في ظل نظام مختلف تماماً. ولا يتمتع سكانها بحق انتخاب حكومة وطنية لأن السلطة الفلسطينية لا تمتلك من السلطة الفعلية إلا القليل بسبب ممارسات الاحتلال، فيما تكون تنقلات الفلسطينيين وتحركاتهم مراقبة بدقة عن طريق الحواجز العسكرية الإسرائيلية. وتخضع معظم النشاطات الاقتصادية والتجارية في أراضي الضفة الغربية للرقابة المشددة من طرف الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك استخدام واستهلاك المياه والتدقيق في الواردات والصادرات. ولعل الأمور أدهى وأمرّ في غزّة التي يقطنها 1,5 مليون فلسطيني لأن إسرائيل لا زالت تفرض رقابتها العسكرية الصارمة على الجو والبحر وكافة المعابر الحدودية المستخدمة للدخول إلى القطاع والخروج منه بما في ذلك الرقابة على السلع والبضائع التجارية والبشر أنفسهم. هذا زيادة على التوسع الذي لا يكاد يتوقف للمستوطنات الإسرائيلية في أرجاء الضفة الغربية كافة، إلى جانب إقامة الطرق المخصصة لاستخدام المستوطنين دون الفلسطينيين، بالإضافة لإقامة الجدران الإسمنتية وحواجز الفصل العنصري المُسيّجة، وكل ذلك أدى إلى تقسيم المناطق والأراضي الفلسطينية إلى «كانتونات» منعزلة لا تختلف في شيء عن «غيتوهات السود» التي كانت سائدة في جنوب أفريقيا. ولهذه الأسباب مجتمعة، وحتى لو اختلف موقف إسرائيل عما كان عليه الوضع في جنوب أفريقيا من حيث عدم وجود تمييز بين الأعراق وألوان سحنات البشر الذي يمثل النظام الحقيقي للتمييز العنصري، إلا أن هناك في إسرائيل معالم ومظاهر عنصرية لا يمكن لأحد أن ينكرها. ويمكن تلخيص الأمر بكلمة واحدة: هناك في إسرائيل مجموعة بشرية تستعمر وتسيطر على جماعة أخرى وتسلبها من كافة الحقوق المدنية والسياسية. وكان رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت قد حذّر في عام 2007 من أن انهيار مشروع حلّ الدولتين سيرجّح احتمال «أن تواجه إسرائيل انتفاضة فلسطينية على الطريقة الجنوب أفريقية للمطالبة بحق متساوٍ في الانتخاب». ولعل من الغريب أن قِلّة من الشبّان الفلسطينيين الذين شعروا بالملل من الفشل المتكرر لمفاوضات حلّ الدولتين، أصبحوا يطالبون بدلاً من ذلك بإطلاق حملة للمطالبة بحق المواطنة الكاملة في دولة واحدة موحدة تضم إسرائيل والضفة الغربية وربما غزة أيضاً، وتتساوى فيها حقوق الجميع بغض النظر عن أصلهم أو عرقهم أو دينهم. إلا أن مشروع حل الدولة الواحدة يفتقد لشروط أساسية تتلخص في أن الشرق الأوسط يمثل مجموعات بشرية متحفظة ومنغلقة. ووفقاً لهذه الحقيقة فإن يهود إسرائيل والفلسطينيين يرغبون في دولتين كلاً على حدة، وينبذون فكرة المشاركة في حكم الدولة الواحدة. ومن أجل الضغط على إسرائيل للاعتراف بهذه الحقيقة والانسحاب من الضفة الغربية، شنّت دول الاتحاد الأوروبي وبعض دول العالم الأخرى حملة مقاطعة ضدها، وفرضت عليها العقوبات التجارية، وسحبت استثماراتها منها. وكان مبعث الانتقادات التي وُجهت إلى كيري عقب إطلاقه لتصريحه الجارح، هو أن من شأنه أن يشجع على توسيع حملة المقاطعة المفروضة على إسرائيل. إلا أن تحميله الأوزار كلها لا يساهم أيضاً في حل المشكلة، ولا يغير شيئاً في لعبة التجاذب المتعلقة بتحديد الطرف الذي يتحمل مسؤولية توقف مفاوضات السلام أو فشلها. والآن، يتحتم على أولئك الذين يحرصون على ضمان مستقبل إسرائيل أن يواجهوا الحقائق الصعبة والمريرة القائمة على الأرض. وليس ثمّة ما هو أكثر تأكيداً لأوجه التشابه القائمة بين الأوضاع التي يعيشها الفلسطينيون الآن وتلك التي عاشها السود في دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، من تشجيع الحكومة الإسرائيلية على إقامة المزيد من المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. وكان آرييل شارون هو المدافع الأكبر عن مشاريع توسيعها باعتبارها تمثل خط الدفاع الأول عن أمن إسرائيل فضلاً عن كونها تشكل وسائل متقدمة للسيطرة على المناطق المحتلة. والآن، يعيش المستوطنون اليهود في ظل قوانين مختلفة تمنحهم امتيازات استثنائية، ويتمتعون بكافة حقوق المواطنة الإسرائيلية، ويتنقلون بحرية تامة في الضفة الغربية فيما يُحرم الفلسطينيون من معظم هذه الحقوق. --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم.سي.تي. انترناشونال»