يغادر البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية أرض الإمارات اليوم في طريق عودته إلى الوطن بعد زيارة ناجحة لدولة الإمارات العربية المتحدة دامت خمسة أيام أقيم له فيها حفل استقبال في أبوظبي يوم الجمعة الماضي، ثم رأس القداس الإلهي يوم السبت في كنيسة الأنبا أنطونيوس بأبوظبي، وأقام قداساً ثانياً في دبي يوم الأحد، فضلاً عن زيارته للشارقة، وكانت كل كلماته في هذه المناسبات وغيرها تفيض بمشاعر العرفان الصادق والمحبة الغامرة ليس باعتباره قائداً قبطياً مرموقاً فحسب، وإنما أيضاً وأساساً باعتباره مواطناً مصرياً. ومما زاد في بهجة المناسبة أن دولة الإمارات قد أحاطت الزيارة بأجواء بروتوكولية وسياسية وإعلامية شديدة الدفء. في البدء، حمل وزير الدولة الإماراتي سلطان أحمد الجابر في يناير 2014 الدعوة إلى البابا تواضروس الثاني لزيارة دولة الإمارات، وهي الزيارة التي تمت في هذه الأيام، وصرحت مصادر بالكنيسة المصرية بأن الكنيسة فوجئت بإرسال صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، طائرة رئاسية إلى البابا كي تقله إلى أبوظبي. وكما فهمت من مصادر كنسية، فإن هذه المجاملة هي السابقة الأولى من نوعها في تاريخ الكنيسة المصرية، وهذا فضلاً عن الحفاوة الرسمية الصادقة التي استقبل بها قداسة البابا. كنت قد أصبت بدهشة ممزوجة ببهجة حقيقية عندما علمت منذ سنوات عدة بأن كنيسة للأقباط الأرثوذكس تبنى في أبوظبي، وكنت بطبيعة الحال عارفاً بالمآثر العديدة لمؤسس الدولة المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، لا لأبناء وطنه فحسب وإنما لأبناء وطنه العربي الكبير كله، لكنني أعترف بأن هذه السماحة الرفيعة من قائد دولة شديدة التمسك بإسلامها مثلت نوعاً من المفاجأة السارة لي، فهذا قائد كبير يفهم دينه حق الفهم ويدرك جوهره، ولو لم تقم هذه الكنيسة في عهده لما لامه أحد أو انتقده، وهو بهذا يقتدي بسلوك أمير المؤمنين الخليفة العادل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي أمّن مسيحيي القدس على دينهم وكنائسهم وأنفسهم، ورفض أن يصلي في كنيستهم حتى لا يقول الناس من بعده «هنا صلى عمر» ويتذرعون بذلك لأي فعل يمكن أن ينتقص من حقوق أتباع الكنيسة، بل لقد رفض حتى أن يصلي في ساحتها ولم يرض إلا بالصلاة في مسرى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. تذكرت وأنا أعيش هذه المشاعر السامية كيف أن هناك نفراً من القوم في وطني الصغير أو حتى جماعات داخله تعتبر الكنائس رجساً من عمل الشيطان ينبغي هدمه وحرقه، وتهرع من فورها لهدم أي مبنى يشك في أنه سيخصص للصلاة، ولم يكن هذا هو الوضع القائم في مصر لعقود طويلة، وستعود بإذن الله إلى سماحتها، خاصة أن موقف كلِ من مرشحي انتخابات الرئاسة قاطع من رفض التمييز الديني. ولاشك في أن مواقف كتلك التي تتبناها دولة الإمارات حكومة وشعباً ستساعد كثيراً في كسب المعركة ضد التعصب والتطرف، وستساعد هذه المواقف أيضاً في نشر الصورة الحقيقية للإسلام بعيداً عما يفعله أولئك الجاهلون الذين قدموا صورة مغلوطة عن الإسلام، باعتباره دين العنف والإرهاب وإزهاق الأرواح. لقيت الزيارة ترحيباً كبيراً من قبل الجماعة المصرية بأقباطها ومسلميها، وإذا تخيرنا نموذجاً أو اثنين لأقباط مصر يمكن أن نشير إلى ما صرح به السيد ممدوح رمزي، وهو قيادي برلماني سابق، من أن الزيارة فرصة جيدة للتواصل مع دولة ليس بها مسيحيون يحملون جنسيتها تعد بمثابة جسر تواصل بين شعوب المنطقة، وأضاف أن الزيارة رسالة تفيد بأن زمن التمييز الديني في الوطن العربي قد ولَّى، وأن القومية العربية تسمو في مجال العلاقة بين الأديان. أما الناشط الحقوقي جرجس بشرى فقد قال إن دولة الإمارات تقدم أكبر مثل لاحترام الأديان السماوية، فالزيارة تجسد الإسلام الحقيقي وسماحته، وأكد أن الموقف المبدئي للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله من دعم كنيسة الأنبا أنطونيوس بأبوظبي يؤكد احترام الدولة قيادة وشعباً للمسيحيين، ويؤكد قول الشيخ ليث بن سعد عندما قال «إن بناء الكنيسة من عمارة الأرض» بعيداً عن المقولات المتطرفة. ليس هذا هو البعد الأهم لعلاقة مصر بدولة الإمارات العربية المتحدة، لكنه البعد الأكثر سمواً لما يحتويه من مشاعر نبيلة، وقد يكون ثمة فضل خاص في ترسيخ هذا البعد لكل من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس الدولة، رحمه الله، والبابا الراحل شنودة، وقد كانت هناك صداقة عميقة تربط بينهما، وهكذا فإن العلاقات القوية بين مصر ودولة الإمارات باتت شاملة ومحصنة، وفي وقت من الأوقات راهن خصوم هذه العلاقة على تغيير التوجه السياسي للإمارات بعد رحيل الشيخ زايد، لكنّ أبناءه واصلوا نهجه لسبب واضح، وهو أن هذا النهج يعبر عن المصلحة الوطنية. يوجد من المصريين ملايين يعملون في عديد من البلدان العربية في كل المهن وعلى المستويات كافة وبينما تعرض بعض هؤلاء المصريين لمواقف صعبة أو أزمات شديدة في عدد من هذه البلدان، فإن وجودهم في الإمارات لم يعرضهم لأي أزمات حقيقية. وهو ما يرجع بالتأكيد إلى طرفي العلاقة معاً فلا المصري يتجاوز ولا الإماراتي يتصرف بعنجهية، وكانت الأزمة الوحيدة في العلاقات عابرة إبان السنة التي حكم «الإخوان المسلمون» مصر فيها، وتطاول أحد أو بعض قادتهم على الإمارات وشعبها بل وحاولوا أن يمارسوا نشاطاً تخريبياً داخلها، وكان تصحيح هذا الوضع شعبياً وبمساندة الجيش نهاية لهذه الأزمة العابرة، وبعدها قدمت الإمارات كل ما تستطيعه سياسياً ومالياً للحكم الجديد في مصر، وكان الحديث عن مشاركة دولة الإمارات في تمويل صفقة الأسلحة الروسية المنتظرة لمصر والمناورات العسكرية المشتركة بين البلدين إشارة لتنامي البعد العسكري في العلاقات بين الدولتين. يعني ما سبق أن زيارة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية دولة الإمارات العربية ليست سوى بعد بالغ الأهمية في العلاقات المصرية- الإماراتية التي تقدم نموذجاً يحتذى به للعلاقات العربية- العربية.