مشاكل النظم السياسية العربية كما ذكرنا ليست سياسية فقط، ونقصد بذلك أنها تكمن في الأصول العميقة للمجتمعات وليس في المفهوم السطحي. ويعني ذلك أن مشاكل الأمة العربية الخطيرة، حقيقة متواجدة في النسيج البنياني العميق للمنظومات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهي مشاكل ليست بعابرة تحت جنح الظلام أو أنها سحابة صيف وستنجلي مع أول هبّة ريح أو ستذهب سريعاً حتى وإنْ تم استبدال القادة الفاسدين بقادة مستنيرين ينظرون إلى المستقبل بذهنية منفتحة، وتقوم الشعوب العربية بإسنادهم للتحرك في اتجاهات مختلفة عما هو قائم وغير سوي. وللتذكير فإن عدَّة قضايا لا بد من التركيز عليها بشكل أكبر، فاقتصادات الدول العربية ليست في ركود فقط لردح طويل من الزمن، لكنها سيئة بالنسبة للمواطن العادي منذ مدة طويلة تمتد إلى أيام الدولة العثمانية في المناطق التي كانت تحت نفوذها، فعلى سبيل المثال مداخيل 95 بالمائة من المواطنين متدنية جداً، ولم ترتفع بشكل حقيقي سوى بالنزر اليسير خلال القرن الماضي، أي منذ الحرب العالمية الأولى، ومنذ أن بدأت الدول العربية في نيل استقلالها. وفي الوقت، نفسه، فإن الدخل بالنسبة لأولئك القابعين في قمم الأهرام الاجتماعية - السياسية والاقتصادية، يشكل نسبة عالية جداً من الدخل الإجمالي للأقطار المعنية وبعبارة أخرى، فإن مجمل مكاسب النظام الاقتصادي تذهب إلى فتات قليلة جداً من البشر. من المفيد التوقف عند هذه الظاهرة والتفكير فيها ملياً وبعمق شديد، فما الذي يمكن أن يحدث لأي مجتمع بشري عندما تذهب المكاسب الحقيقية لمجمل النظام الاقتصادي إلى القابعين في قمّة الهرم الاجتماعي فقط؟ وحقيقة أننا لسنا في وضع نرغب فيه انتقاد تلك القلة، ولكن بالنظر إلى ما حصل في مصر في أعقاب عهد عبد الناصر، وإلى ما يحدث في سوريا والسودان والصومال وتونس .. وإلى آخر المنظومة فإن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هو ما الذي يمكن أن يحدث للنظام السياسي عندما تحدث فيه مثل هذه الأشياء وتستمر في الحدوث بطرق متواترة عاماً بعد عام وعقد بعد آخر وعلى امتداد الزمن؟ من الأمور التي تستحق التذكير بها أيضاً أن الملايين من أبناء الشعوب العربية يوصفون رسمياً بأنهم فقراء، والأعداد في تزايد وليست في تناقص مقارنة بما كانت عليه في أواخر ستينيات القرن المنصرم، وهو مظهر آخر يعد علامة مثيرة للقل الشديد. وبالعودة إلى السؤال المطروح: ما الذي يجب علينا فعله إذا؟ نحن لا نستطيع الادعاء بالقدرة على طرح إجابة شافية له، لكن يمكننا الحديث عن ضرورة خلق استراتيجية محددة تسير عليها الشعوب العربية لكي تصل إلى أهدافها، وهي استراتيجية نأمل أن تكون متطوِّرة لكي تشكل إجابة مبدئية على السؤال المطروح. لهذا السبب لا بد من تعطيل بعض الأسئلة الخاصة بالتكتيكات التنظيمية، أو حتى بالنداءات الدعائية الفضفاضة والغوغائية لإحداث «ثورات». تلك الأسئلة يمكن العودة إليها لاحقاً، لكن بعد التعامل مع المسائل ذات العلاقة بالنظم السياسية القائمة والمتعلقة بالطبيعة غير العادية للمرحلة التاريخية القائمة حالياً في العالم العربي. وكدارس للنظم السياسية لديّ قناعة مؤكدة بأن الأزمات الصعبة لا تستمر إلى الأبد، وفي اعتقادي أن العرب سيتجاوزون محنتهم الحالية. وهذا الاعتقاد لا ينطلق من فراغ، لكن من التيقن بأنها حقيقة من الممكن حدوثها في أي وقت قادم. إن اعتقادي الراسخ هو أنّ العرب يمكنهم وضع حجر الأساس لصيغة عربية حقيقية من التغير الإيجابي نحو الأفضل الخاص باستمرارية مجتمعاتهم واستقرارها، وليس على النهج الغوغائي لهدمها، وبالتالي إعادة «مأسسة» الوجود العربي لأمة قادرة من قاعدة الهرم وإلى أعلى.