أريد أولاً أن أعتذر لقرائي الكرام عن قطع سلسلة المقالات التي أكتبها عن «تحولات الشخصية المصرية» والتي تفاعل معها القراء بتعليقات وإضافات قيمة. فقد قررت أن أعالج موضوعاً جديداً فرضه عليّ اندلاع ثورة معرفية في علم الاقتصاد أصبحت حديث العالم كله. ويتلخص الموضوع – بإيجاز شديد- في أن أستاذ اقتصاد فرنسي اسمه «توماس بيكيتي» ‏ Thomas Pikitti? ?نشر? ?كتاباً? ?في? ?600? ?صفحة? ?باللغة? ?الفرنسية? ?عنوانه? «?رأس? ?المال? ?في? ?القرن? ?الحادي? ?والعشرين?» ?منذ? ?شهور? ?قليلة.? ?فالتقطته? ?جامعة? «?هارفارد?»?-? ?نظراً? ?لأهميته? ?القصوى-? ?وقامت? ?بترجمته? ?إلى? ?الإنجليزية? ?وتم? ?بيع? ?نصف? ?مليون? ?نسخة? ?منه? ?على? ?الأقل? ?في? ?شهرين? ?فقط?! ولا ترد أهمية الكتاب إلى رواجه السريع مع أنه نص اقتصادي معقد زاخر بالملاحق الإحصائية، ويتضمن دراسة منهجية ونقدية لتطورات رأس المال في القرون الثلاثة الأخيرة في 23 دولة في العالم، ولكن لأنه مثل ثورة علمية في مجال دراسة ظاهرة عدم المساواة. وأريد في هذا المقال أن أتحدث عن مقدمات الثورة العلمية التي أنجزها «توماس پيكيتي»، لأنها في تقديري نتاج منطقي للتراكم المعرفي في مجال نقد الرأسمالية باعتبارها نظاماً اقتصادياً تبلورت ملامحه منذ وقت مبكر حقاً. وقد أتيح لي أن أتتبع نقد الرأسمالية في عديد من كتاباتي، والتي وصلت ذروتها في كتاب لي نشر عام 2009 بعنوان «أزمة العولمة وانهيار الرأسمالية» (القاهرة: نهضة مصر). وقد بدأ نقد الرأسمالية بصدور كتاب بالغ الأهمية عام 1942 للمفكر الاقتصادي «كارل بولاني» عنوانه «التحول العظيم: وهو الكتاب العمدة في الفكر الاقتصادي العالمي الذي أصلّ فكرة السوق الرأسمالي منذ نشأته، والذي صاحبته النظرية التقليدية التي تقول إن السوق "فضاء اقتصادي" يوازن نفسه بنفسه عن طريق "اليد الخفية" بتعبيرات "آدم سميث"، ومن ثم لا يجوز للدولة إطلاقاً أن تتدخل في تنظيمه، وهذا مبدأ مقدس من مبادئ الرأسمالية. إلا أن هذا المبدأ سقط وتهاوى حين اضطر الرئيس "أوباما" أن يضخ حوالى 600 تريليون دولار من أموال دافعي الضرائب الأميركيين حتى ينقذ الشركات والبنوك الأميركية الكبرى من الانهيار التامّ بما يعني إفلاس الاقتصاد الأميركي بالكامل. غير أن "كارل بولاني"– وكانت لديه نزعات اشتراكية- حذر بوضوح شديد من سيطرة الاقتصاد على الدولة أو على المجتمع. غير أن نصائحه ذرتها الرياح لأن السوق الرأسمالي سيطر بالكامل على الدولة الأميركية وعلى المجتمع الأميركي إلى أن وقعت الكارثة. غير أنه بالإضافة إلى هذا التحذير المبكر لـ"كارل بــولاني" هناك مفكر اقتصادي آخر ذائع الشهرة هو شومـبيتر وله كتاب أساسي عنوانه "الاشتراكية والرأسمالية والديموقراطية" تنبأ فيه منذ الأربعينيات أيضاً بأن النظام الرأسمالي لن يتاح له البقاء للأبد، لأنه سينفجر من داخله بحكم التناقض الرئيسي بين "جماعية الإنتاج وفردية الحصول على الفائض". ويمكن القول إن هذه الكتابات المبكرة تمثل الجيل الأول من التحليلات النقدية للرأسمالية، غير أنه ظهرت في السنوات الأخيرة أجيال أخرى من النقاد الذين وجهوا للرأسمالية كنظام اقتصادي ضربات موجعة، لعل من بين أشهرهم الصحفية الكندية "ميلاني كلين"، التي نشرت كتاباً شرّحت فيه الرأسمالية المعلوماتية واقتصاد الصورة عن طريق التحليل الدقيق للإنتاج الرأسمالي المعاصر، والذي يقوم أساساً على إنتاج الصور الذهنية التي تأخذ شكل العلامات التجارية الشهيرة مثل "أديدادس" مثلاً للأدوات الرياضية، مما يجعلها "مودة" عالمية، وكتابها عنوانه ‏No Logo.? ?غير? ?أنها? ?أخرجت? ?من? ?بعد? ?كتاباً? ?آخر? ?أشد? ?خطورة? ?عنوانه? "?الرأسمالية? ?والكارثة?" ?قررت? ?فيه? ?أن? ?الرأسمالية? ?كنظام? ?اقتصادي? ?تقوم? ?أساساً? ?على? ?الكوارث? ?التي? ?قد? ?تحدث? ?نتيجة? ?ظروف? ?طبيعية? ?أو? ?إهمال? ?بشري،? ?غير? ?أنه? ?إن? ?لم? ?تحدث? ?كارثة? ?بهذا? ?المعنى،? ?فإن? ?النظم? ?الرأسمالية? ?ستصنعها? ?لأنها? ?لا? ?يمكن? ?أن? ?تعيش? ?إلا? ?على? ?الكوارث.? ?ولعل? ?النظرية? ?الشهيرة? ?في? ?تفسير? ?الحروب? ?الاستعمارية? ?غير? ?الشرعية? ?للولايات? ?المتحدة? ?الأميركية? ?باعتبارها? ?أداة? ?رئيسية? ?لتشغيل? ?مصانع? ?السلاح? ?تقع? ?في? ?إطار? ?هذه? ?النظرية. لكن يمكن القول إن الكتابات الاقتصادية ركزت في العقود الأخيرة ليس على نقد الرأسمالية ككل، ولكن على تزايد حدة ظاهرة عدم المساواة التي أنتجتها الرأسمالية، وبخاصة بعد سيادة العولمة الاقتصادية التي أدت إلى عدم المساواة بين الدول المتقدمة التي تمتلك التكنولوجيا المتعددة ووسائل الاقتصاد والمهارات الإدارية العليا، وبين الدول النامية التي لا تملك هذه المؤهلات، والتي اضطرت -بحكم إجبارها على التوقيع على اتفاقية منظمة التجارية العالمية- أن تفتح أسواقها بالكامل دون أي قيود أو حدود أمام الرأسمال الأجنبي والشركات دولية النشاط، مما أدى إلى إفقار السوق المحلي وتدني عملية التنمية. وقد أدت تعليمات البنك الدولي في ظل سيادة مبادئ "الليبرالية الجديدة" إلى تصفية القطاع العام والذي كان ينتج السلع بأسعار معقولة للجماهير العريضة، والدخول بعمق في عالم الخصخصة، مما أدى إلى زحفها على مؤسسات الإنتاج وحتى المؤسسات الخدمية، وهذا أنتج في النهاية ظاهرة خطيرة هي عدم المساواة بين الطبقات، والذي أدى في الواقع إلى تركز الثورة في يد القلة عن طريق حلف غير مقدس بين أهل السلطة وأهل الثروة، كما حدث تماماً في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس السابق "مبارك"، مما أدى إلى بروز فجوة طبقية كبرى عبرت عن نفسها في التناقض الصارخ بين "المنتجعات" من ناحية، والتي تعيش فيها القلة المترفة التي كونت ثوراتها عن طريق نهب أراضي الدولة والمضاربات غير المشروعة في البورصة، وبين "العشوائيات"، والتي يعيش فيها ملايين المصريين الفقراء المحرومين من كافة الخدمات الأساسية، لدرجة أن هناك ثلاثة ملايين فقير يسكنون ويعيشون في المقابر حيث اختلط الأحياء بالأموات! وقد تطرق البنك الدولي إلى هذه الظاهرة في أحدث تقاريره التي عرضت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة. وقد عرض التقرير الخبير الاقتصادي الأول في البنك الدولي، وهو إيطالي الجنسية واسمه "باولو فريري"، والذي قرر -بسذاجة مفرطة- أن هناك –في الواقع المصري- لغزاً ينبغي حله وهو التناقض بين البيانات الرسمية المصرية عن نمو الدخل القومي التي تقول إنه وصل إلى معدل 7%، وبين إدراكات الجماهير التي قاستها مسوح "المسح العالمي للقيم" والتي أجمعت على أن الفقراء زادوا فقراً، كما أن أفراد الطبقة الوسطى هبطوا إلى مستوى الطبقات الدنيا الفقيرة. تساءل "فريري" يا ترى كيف نحل هذا اللغز؟ وجاء كتاب "توماس بـيكيتي" عن "رأس المال" في القرن الحادي والعشرين لكي يحل له هذا اللغز هو وأضرابه من أنصار الرأسمالية المتوحشة!