تنبع إشكالية الهوية في المغرب العربي من مصدرين رئيسيين؛ أولهما التركيبة السكانية للمنطقة، وثانيهما وحدة التاريخ الاستعماري للمغرب العربي. وفي هذا السياق التاريخي والجغرافي تبلورت إشكالية الهوية على تماس شديد بالمسألة اللغوية، لاسيما بعد ظهور حركة سياسية وثقافية جديدة جعلت من اللغة الأمازيغية محور نشاطها وأساس مطالبها. على هذه الخلفية يتناول كتاب «إشكالية الهوية والتعدد اللغوي في المغرب العربي»، والذي نعرضه هنا، قضيةً من ثلاثة أطراف؛ الهوية واللغة والتعليم، متخذاً من المغرب الأقصى نموذجاً. ويبرر مؤلفا الكتاب، إلياس بلكا ومحمد حراز، تركيزه على التجربة المغربية بالإشارة إلى كون المغرب يمثل المختبر اللغوي المثالي للمغرب العربي عموماً، وإلى حقيقة أن التعدد اللغوي فيه أوسع من غيره، فضلا عن كون الحركة الأمازيغية التي أعادت طرح سؤال الهوية المغاربية هي أقوى ما تكون في المغرب الأقصى. وقد جاء الهيكل المنهجي للكتاب مبنياً عبر ستة فصول؛ أولها عن هوية المغرب وكيف تشكلت عبر الزمان، وما هي أسئلة الحاضر بشأنها، فيما تمحض الفصل الثاني للغة العربية ومكانتها وبعض مشكلاتها في المغرب. أما الفصل الثالث فيستقصى جذور الدعوة إلى العامية، ويحلل بعض أسس هذه الفكرة. فيما يُعنى الفصل الرابع بمسألة اللغة الفرنسية، ودخولها إلى المغرب، وكشف مجالات انتشارها وأسبابه. هذا بينما يتعلق الفصل الخامس بالحركة الأمازيغية ومحورية اللغة في خطابها الأيديولوجي. ثم أخيراً يتطرق الفصل السادس للغات التعليم في المغرب و«ظاهرة الفوضى اللغوية في المدرسة المغربية». وكما يوضح المؤلفان فإن موضوع الهوية، بإشكالاته اللغوية والثقافية، من أهم القضايا التي سيطرت على ساحة الحوار الثقافي في المغرب خلال العقود الأخيرة وإلى غاية اليوم، مما يعني، حسب المفكر المغربي محمد سبيلا، أن «مجتمعنا لم يستطع أن يقارب فكرياً تمايزاته الداخلية، ولم يجد بعد طريقه إلى تدبيرها التدبير العقلاني الأمثل؛ سياسياً وثقافياً». ووفقاً لسبيلا نفسه فإن «الفضاء الأيديولوجي للهوية في بلادنا تتنازعه اليوم ثلاث حساسيات: أولاها الخطاب الإسلامي بشقيه؛ الإسلامي والعروبي.. وثانيتها خطاب الهوية الأمازيغية بشقيه؛ الأمازيغية الثقافية والأمازيغية السياسية، وثالثها الخطاب الكوني». لكن خطاب الهوية في المغرب ليس وليد اليوم، لذلك يحاول المؤلفان استكشاف العلاقة القوية بين بروز مسألة الهوية الوطنية و«الظهير البربري»، حيث أدت محاولة الفرنسيين شق الصف المغربي إلى إلحاح الفكر الوطني على مسألة الهوية، وهكذا فالتصور الشائع هو أن ظهور الحركة الوطنية المغربية إنما يعود إلى الظهير البربري عام 1930، حيث كان هدف فرنسا من وراء ذلك القانون أن تفصل المناطق الأمازيغية عن المناطق العربية، بحيث لا تخضع الأولى لأحكام الشريعة، بل يتم كل شيء وفق الأعراف الأمازيغية المحلية القديمة، بما في ذلك شؤون الأسرة. وإن كانت الحركة الوطنية المغربية تعود في الواقع إلى عام 1925، فإن الظهير البربري كان له الأثر الأكبر في تنبيه المغاربة إلى الأخطار المهددة لهويتهم، والتي حصروا مكوناتها في ثلاثة عناصر: الإسلام والأمازيغية والعربية. ورغم مكانة اللغة العربية وكونها اللغة الرسمية للبلاد، يرى المؤلفان أنها، في المنظومة التعليمية المغربية، تعيش أزمة حقيقية، وتعاني من مجموعة اختلالات على مستوى التدبير التربوي عموماً والمنهج الدراسي خصوصاً. فبعد المعركة الطويلة مع الاستعمار، تكون لدى المغاربة اقتناع بالأهمية القصوى لتحقيق مشروع الاستقلال الثقافي واللغوي، فعملوا على بناء مدرسة وطنية قائمة على أربعة أسس: تعميم التعليم، مغربة الأطر، توحيد السياسة التعليمية الوطنية، وإقرار العربية لغة رسمية. غير أن مشروع التعريب افتقر إلى التنسيق بين أجزائه وإلى الانسجام بين المراحل التعليمية، إذ اقتصر على الابتدائية منها، ثم شمل المرحلة الثانوية في بعض المواد الدراسية دون سواها. ومع ذلك فالعربية عبر تاريخ المغرب، ظلت وما تزال تقوم بأداء ثلاثة وظائف أساسية: الوظيفة العقدية؛ بوصفها لغة الإسلام، والوظيفة الوحدوية؛ بوصفها المشترك اللساني بين المغاربة جميعاً، ثم الوظيفة الرسمية في الإدارة والإعلام وباقي مؤسسات الدولة المغربية. وفيما يتعلق بالدعوة إلى العامية في المغرب، يعتقد المؤلفان أنها في جانب كبير منها تمثل استنساخاً للخطاب الاستعماري، علاوة على كونها مظهر من مظاهر الفرانكفونية التي تلبس في كل مرة لبوساً ثقافياً جديداً، كجزء من دفاع ناشطيها عن القيم البديلة للهوية المغربية. وأحد الوجوه الملحوظة لقضية الفرنسة في المغرب، كما يوضح الكتاب، كونها أداة لطبقة نخبوية حريصة على الاستفراد بالنفوذ والتميز عن سائر الشعب بلكنتها التي تخلط بين العامية والفرنسية. هذا علاوة على وظيفة أخرى للفرنسة، ألا وهي تمييز الأمازيغ عن العرب. ويتطرق الكتاب إلى الحركة الأمازيغية، موضحاً أنها نشأت في نهاية الستينيات، وأنها كانت تهتم بالتراث الأمازيغي الثقافي، لكنها انتقلت في الثمانينيات إلى مرحلة تشكيل تيار فكري سياسي، لتعيد النقاش حول قضية الهوية، وأسس الدولة المغربية. وقد نجحت، يقول المؤلفان، في جعل القضية الأمازيغية من القضايا الكبرى المطروحة حالياً على الدولة والمجتمع في المغرب، مع السعي المتواصل لإدخال الأمازيغية إلى المدرسة والمقررات التعليمية المغربية. محمد ولد المنى ----- الكتاب: إشكالية الهوية والتعدد اللغوي في المغرب العربي المؤلفان: إلياس بلكا ومحمد حراز الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2014