عندما أُسدل الستار على الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي اعتقد البعض أن الحرب النووية باتت جزءاً من الماضي، وأن انتشار الأسلحة الفتاكة لم يعد مطروحاً، لكن ما يثبته كتاب الباحث في شؤون الانتشار النووي، «فيبين نارانج»، بعنوان «الاستراتيجية النووية في العصر الحديث.. القوى الإقليمية والصراع الدولي»، يذهب عكس ذلك الاتجاه، بل يعيد إلى الواجهة مسألة الانتشار النووي من منظور مغاير لا يرتبط هذه المرة بالقوة الكبرى التي ظلت طيلة الحرب الباردة محتكرة لقوة الردع النووي، بل الجديد، كما يقول الكاتب، هو توسع الأنشطة النووية وانتشار السلاح ليصبح الانشغال النووي اليوم أكثر ارتباطاً بالقوى الإقليمية، ما يستدعي تحليلاً مختلفاً وطريقة أخرى في التعامل مع الواقع الجديد. وفي هذا السياق يقول الكاتب إن عالمنا المعاصر بصدد مرحلة جديدة يمكن أن يطلق عليها العصر النووي الثاني الذي يتفرد بخصائصه المميزة، فهو ليس كعالم الحرب الباردة التي طغت عليه قوتان أساسيتان، حيث تتوزع اليوم مصادر القوة على أكثر من بلد رئيسي يمارس دوراً ونفوذاً في إقليمه. هذه الدول أيضاً تمتلك ترسانات نووية وإن كانت أقل من نظيرتها لدى القوى الكبرى، لكنها تتواجد في مناخ من الصراعات الحدودية والتنافس الإقليمي، بالإضافة إلى ما تعانيه أحياناً من ضعف المؤسسات الداخلية. إن نموذج القوى النووية الكبرى لا يبدو قابلا للتطبيق على القوى الإقليمية ذات السلاح النووي، لاسيما استراتيجية الردع المتبادل التي عمل بها الطرفان في أوج الحرب الباردة وساهمت في منع اندلاع نزاع نووي، ومن تلك القوى التي لا ينطبق عليها نموذج الردع النووي هناك الهند وباكستان اللتان تمتلكان ترسانة صغيرة من السلاح النووي وتعرف العلاقة بينهما مشكلات عديدة، أما في الشرق الأوسط فمعروفة المساعي التي تبذلها إيران لتعزيز قدراتها النووية، مما قد يطلق سباقاً نووياً في المنطقة. وفي شرق آسيا يظل الغموض سيد الموقف فيما يتعلق بترسانة كوريا الشمالية. وتبقى اليابان البلد الأكثر قدرة على تطوير السلاح النووي، إذ يمكن اعتبارها دولة نووية بالفعل مع وقف التنفيذ، لكن في حال اجتيازها الخط الفاصل بين القدرة والفعل ستعرف المنطقة هرولة متسارعة باتجاه السلاح النووي قد تؤثر على السلم الدولي والتوازنات العالمية؛ لذا يرى المؤلف ضرورة الدخول في صلب النقاش النووي بمفهومه الجديد الذي لا تؤطره القوى التقليدية، بل تلك الصاعدة والطارئة على المجال النووي. ولفهم سياسة الدول النووية ومحدداتها يتعين الانكباب على دراسة القرارات التي اتخذتها قوى مثل الصين والهند وباكستان وإسرائيل وفرنسا وجنوب أفريقيا، بشأن أسلحتها، وهو مسعى يعتبره المؤلف الفكرة الناظمة لكتابه مركزاً على التجارب النووية للقوى الإقليمية التي تم تجاهلها من قبل الباحثين بسبب الإغراق في الاهتمام بالقوى الكبرى. وفي سبره لأسرار القوى النووية الإقليمية يجيب الكاتب عن سؤالين أساسيين؛ أولهما يتعلق بالاستراتيجيات التي تعتمدها هذه الدول في المجال النووي، والثاني بتداعيات هذه المواقف والاستراتيجيات، وما يترتب عنها من خيارات سياسية، على الأمن الدولي وقدرة تلك الاستراتيجيات على منع نشوب الصراعات. لكن ما يكشفه المؤلف هو قلة المعلومات المتوافرة حول سياسات القوى الإقليمية واستراتيجيتها المعتمدة في استخدام السلاح النووي، وهو أمر يرجع -حسب المؤلف- إلى استمرار هيمنة أدبيات الحرب الباردة حول الموضوع النووي وتجربة القوى الكبرى التي تختلف عن نظيرتها لدى القوى الإقليمية. فبالمقارنة مع أميركا والاتحاد السوفييتي تواجه القوى النووية الراهنة إكراهات خاصة بها وفرصاً لم تكن متوافرة لدى القوى الكبرى، كما أنها تعمل ضمن بيئة دولية مختلفة، والنتيجة أن معجم الحرب الباردة المستخدم حالياً لم يعد صالحاً لوصف الوضع الحالي للقوى النووية الجديدة. فالقوى الإقليمية النووية ما عادت تكتفي بعقيدة الردع المتبادل، بل انخرطت في استراتيجيات جديدة منها مثلاً الاكتفاء بترسانة صغيرة لإحداث التوازن المطلوب بدل جمع ترسانة كبيرة، والدمج بين السلاح التقليدي والنووي في إطار استراتيجية شاملة قد لا تتردد في اللجوء للسلاح الفتاك حتى في حال الهجوم التقليدي. أما السبب الثاني الذي يفسر العجز الحالي في فهم الديناميات المستجدة فيرجع، وفقاً للكاتب، إلى فكرة مغلوطة مفادها أن ما يؤثر على الساحة الدولية، هو اكتساب السلاح النووي وليس الاستراتيجيات المترتبة عليه. والحال أن هذه الاستراتيجيات، في نظر الكاتب، تبقى أهم في تأثيرها على السلم والأمن الدوليين، ما يستوجب إيلاءها الاهتمام اللازم الذي ما زال غائباً حتى الآن. زهير الكساب ------- الكتاب: الاستراتيجية النووية في العصر الحديث.. القوى الإقليمية والصراع الدولي المؤلف: فيبين نارانج الناشر: جامعة برينستون تاريخ النشر: 2014