يبدو أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الرياضة المعولمة بامتياز، فرغم ما ردده المفكرون والكتاب طويلاً من أن قرننا الحالي سيطغى عليه الدين، وسيشهد صعوداً لافتاً في المشاعر الروحية، يثبت الواقع أنهم جانبوا الصواب في توقعاتهم، فالرياضة، وليس الدين هي من تحولت إلى ساحة المواجهة الأولى بين الدول، وهي مواجهة تجري وفقاً لقواعد سلمية بعيدة عن الرصاص والنار، إذ لم يعد خافياً الدور الذي تلعبه المنافسات الرياضية المختلفة في رفع الأعلام الوطنية للدول، وتسجيل الحضور القوي والوازن في أعين الآخرين. وفيما يشتكي البعض من تباعات العولمة، مثل طمسها الهويات الخاصة، وتنميطها العالم والثقافات، وفقاً لمعايير موحدة تنفي الخصوصية والتميز، تأتي الرياضة لتعيد اللحمة الغائبة مجدداً إلى النسيج العالمي، وتُرجع للهويات الوطنية قيمتها على الساحة الدولية. وفي عالم ما زالت أوجه المنافسة بين الدول قائمة على أكثر من صعيد، والرغبة في التفوق وإحراز السبق موجودة، وإن ابتعدت عن الوسائل العنيفة لتحقيقها، وأيضاً في سياق عالمي لم تغب عنه الحدود الفاصلة بين الدول والكيانات، وإن كانت قد أصبحت أقل صرامة وتداخلت فيها الشعوب والثقافات، ما جعلها تخشى على كينونتها.. تحولت الرياضة إلى ذلك الحصن الأخير والقلعة المنيعة التي تسمح بممارسة لعبة الهوية والتعصب لها أحياناً دون تداعيات سياسية أو اجتماعية، كما في الصراعات الجيوسياسية. وقد باتت الرياضة أيضاً البديل عن القوة الصلبة التي سادت في القرن الماضي، باعتبارها وسيلة الصراع بين الدول، لتتحول اليوم إلى مجال القوة الناعمة التي تحتل فيها صورة البلد مكانة أهم، وتتبوأ فيها الرياضة رمزية خاصة، بوصفها أداة لتلميع الصورة وإبرازها. وإذا كان ماكيافيلي قد قال مرة، إنه من الأفضل للأمير أن يكون مرهوب الجانب من أن يحبه الناس، فإن الأمر لا ينسجم ومنطق العصر الراهن، فعلاقة الخوف بين الأمير ورعيته تُدخل المجتمع في توتر دائم هو في غنى عنه، كما تجبر الأمير على بذل جهد كبير لفرض علاقة الخوف تلك كان يمكن استخدامها على نحو أفضل في جوانب أخرى. والأكثر من ذلك فإن الخوف لا يمكن إدامته على المدى البعيد، في حين تضفي علاقات الحب والمودة بين الأمير والرعية قرباً وحميمية مطلوبة لإطالة أمد العلاقة، وهو ما تتيحه الرياضة التي تقرب بين النخب والناس. ويضاف إلى ذلك، أن الرياضة بألقها الدولي الذي تسبغه على الدول والنجوم، باتت تتجاوز الحدود الوطنية والهويات الضيقة. فالرياضة أصبحت تحتل مكان المشترك الذي يوحد اهتمامات الرأي العام الدولي، وأضحى الجميع أينما كانوا حول العالم يتابعون التظاهرة ذاتها، ويتسقطون أخبار نفس اللاعبين والنجوم. وللتدليل على توسع الاهتمام بالرياضة في وسائل الإعلام، ما علينا سوى العودة إلى أول مباراة في كرة القدم خاضها المنتخب الفرنسي في كأس العالم بالأوروجواي، حيث خصصت أول جريدة فرنسية في ذلك الوقت 18 سطراً لتغطية المشاركة، وهو لا يقارن بما تفرده صفحات الجرائد اليوم من تغطية مفصلة لكأس العالم. فضلاً عن المتابعة الحية لأطوار البطولة على شاشات التلفزيون، وما يصاحبها من تعليق وتحليل. أما اللاعبون، فقد تحولوا في القرية الكونية التي بات عليها العالم إلى نجوم لا يكاد يجهلهم أحد، بل تفوقوا في هذا المجال على السياسيين. فالجميع تقريباً سمع باسم كريستيانو رونالدو، لكن القليلين فقط منا يعرفون اسم رئيس الوزراء البرتغالي! ومن أيضاً يتذكر اسم الرئيس البرازيلي في عام 1970 عندما انعقد كأس العالم في المكسيك، لكن في المقابل يظل اسم بيليه محفوراً في الذاكرة، ويأبى النسيان. و إذا كان السياسيون يثيرون جدلاً بين الرأي العام، ويتوزع الناس بين احترامهم تارة، واحتقارهم تارة أخرى، فيما لا يحظى الكتاب والمفكرون سوى بمتابعة محدودة، ويسبقهم في ذلك بعض الفنانين المشهورين، يبقى لاعبو كرة القدم الأكثر متابعةً في العالم. فنسبة الذين يدمنون على مشاهدة كرة القدم، أو أي رياضة أخرى، يفوق متابعي السياسيين، وهي في تزايد مستمر بفضل اتساع رقعة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التي قربت الرياضة، وأذاعتها على نطاق واسع. وفي وقت يحظى فيه الرأي العام بأهمية كبيرة في العالم لتأثيره في قرارات السياسيين، فإن الرياضة باتت أحد الاهتمامات الأساسية لهذا الرأي العام لتكتسي مكانة استراتيجية يمكن توظيفها سياسياً، سواء من الدول الساعية إلى استعراض إنجازاتها وتسجيل حضورها في العالم، أو من السياسيين الطامحين إلى ركوب موجة الشعبية الطاغية للرياضة والظهور بمظهر المنخرطين مع الناس والمتابعين لاهتماماتهم. ولا ننسى في النهاية تلك العلاقة الجدلية بين الرياضة والعولمة، فهذه الأخيرة التي تقلص الزمن وتقرب المسافات ساعدت في صعود الرياضة بتسليط الأضواء عليها ونقلها إعلامياً (وبكثافة) إلى داخل البيوت، فيما ساهمت الرياضة من جانبها في تعميق تفاعلات العولمة وتكريس دينامياتها، مع الحرص في الوقت نفسه على إسباغ وجه إنساني على تجلياتها. وبهذا المعنى لم تعد الرياضة مجرد مجال للعب، بل أصبحت أكثر من ذلك، فهي أولا المشاعر والحماس، وهي أيضاً المتعة التي تخلقها في النفوس، ثم لحظات التوتر والإحباط عند الهزيمة، والصداقة والأخوة والمشاركة بين الشعوب.. لكن الرياضة هي كذلك مجال للتدافع الجيوسياسي بين الدول بعيداً عن الأدوات التقليدية التي تتوسل العنف والحرب، مفضلةً التنافس واستعراض المهارات الجسدية وقدرة الإنسان على رفع التحدي والتفوق على نفسه.