ذكرت في مقال سابق أنه لم يعد من الممكن للمجتمعات العربية استرجاع صدقيتها الداخلية والخارجية إلا باستعادة نخبها الجديدة أو القادمة لمعاني المسؤولية بأبعادها الثلاثة الوطنية والإقليمية والدولية، وبإظهار هذه النخب بشكل واضح قدرتها على تحمل هذه المسؤولية في المستويات المتعددة لممارستها وعلى الحكم بمنطقها وبالتطابق معها. وإذا كان حمل المسؤولية الوطنية يعني اليوم في العالم العربي السعي الجدي إلى تغيير جذري في أساليب الحكم والإدارة وفي نوعية السياسات التي قادت إلى الأزمة الداخلية المتفجرة والعودة إلى طريق الإدارة السليمة القائمة على احترام معايير الكفاءة والنزاهة والقانون، بدل معايير الزبونية والمحسوبية وتبادل المصالح السائدة، وكان حمل المسؤولية الإقليمية يعني مساهمة كل دولة في خلق الشروط التي تسمح بضمان استقلال الإقليم وتطوير سبل التعاون والتبادل المثري بين شعوبه فإن حمل المسؤولية الدولية يعني، قبل أي شيء آخر، الارتفاع إلى مستوى التحديات العالمية والمشاركة في إنضاج وتحقيق القرارات التي تهم مستقبل البشرية. ولن يمكن لأية نخبة حاكمة أن تظهر بمظهر النخبة السياسية المسؤولة وبالتالي أن تحظى من جديد بالصدقية إلا بقدر ما تظهر من قدرة على تحقيق المهام المتعددة والمتنوعة المنوطة بها.
ويعني الارتفاع إلى مستوى المسؤولية الدولية العمل الجماعي في سبيل تأمين درجة أكبر من التكافل الإنساني بما يتضمنه ذلك من المساعدة على خلق الشروط الملائمة لتقدم عملية التنمية وإزالة عوامل القهر والانسدادات العديدة والمتزايدة التي تواجهها المجتمعات على جميع مستويات نشاطاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية والتي تؤدي إلى تفجر حركات الثورة الجامحة والعنف. وفي ما يتعلق بالعالم العربي، لن تستعيد المجتمعات موقعها لدى الرأي العام العالمي ولن تنجح في تحسين صورتها السلبية إلا بقدر ما تظهر قدرتها على بناء نظم قادرة على إطلاق ديناميات الحداثة المعوقة ودفع عجلة التقدم العلمي والتقني والأخلاقي. ويقتضي التقدم في هذا الطريق ويشترط حتماً تحرير الشعوب العربية من العطالة والهامشية والقيود السياسية والفكرية والأمنية التي تكبلها وتدفع بها إلى الاستقالة والانكفاء أو تفجر في وسطها حركات الإرهاب الانتقامية. لكن في ما وراء ما يقدمه هذا التحرير من فرص لا بديل عنها لتأكيد إدراج المجتمعات العربية في دائرة الحضارة الحديثة وتأمين التعاطف الدولي الذي لابد منه اليوم لاكتساب الوسائل التي تمكننا من التحول إلى قطب مستقل للتنمية الإنسانية وللمشاركة في السياسات الدولية، يشكل تحويل النظم العربية في اتجاه الديمقراطية شرطاً أساسياً لتغيير صورة العرب في عيون الشعوب العربية نفسها.
وليس المقصود بالديمقراطية هنا وجود الواجهة التعددية الشكلية ولكن سيادة قيم احترام الإنسان ومبادئ الحق والقانون، أي إيجاد نظم سياسية تخضع لمبادئ المدنية، وتضمن قيمها من حرية وعدالة ومساواة وتضامن وتكافل جماعي معاً.
وليس هناك شك في أن تعميم مبادئ وقيم احترام الحقوق الإنسانية ونشر معايير المساواة والعدالة والحرية والتكافل يشكلان اليوم الأرضية الضرورية للنجاح في إطلاق مبادرات إنسانية وبلورة سياسات تعاون دولي نشطة وبناءة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما يشكلان الإطار الوحيد الذي يسمح بتجاوز خيارات حرب الحضارات وصداماتها الكارثية نحو خيار المفاوضات الجماعية وجلوس جميع الأطراف المعنية، أوروبية كانت أو أميركية أو آسيوية أو أميركية لاتينية أو روسية أو أفريقية حول دائرة مستديرة للحوار الدولي الجدي. هذا هو الثمن الحقيقي لطموح أي إقليم إلى التحول إلى طرف في النقاش العالمي الراهن، بما في ذلك العالم العربي، ولظفره بدور أو بنصيب من التأثير في رسم وتقرير المصير البشري.
فبصرف النظر عما يكتب على الورق وما يجود به بعض رجال السياسة الغربية، ليس لمثل هذا الحوار مكان ولا تبرير في الظروف الراهنة التي لا يمثل فيها العرب شيئاً لا من الناحية الاستراتيجية ولا الاقتصادية ولا التقنية ولا العلمية ولا الثقافية، ويشكلون بالأحرى عالة في كل ما يحيط بهم على الأسرة البشرية. فهم غير قادرين حتى على حل مشاكلهم الداخلية بأيديهم ولا يزالون محتاجين إلى تدخل الدول الكبرى لفرض الإصلاحات والإقرار بالحد الأدنى من الحريات والحقوق الأساسية. وليس من الممكن في مثل هذه الشروط الحلم بأي حوار جدي يعيد للعرب مكانتهم الدولية. لا عربياً أميركياً ولا عربياً أوروبياً ولا عربياً يابانياً ولا عربياً صينياً ولا عربياً هندياً ولا حتى عربياً أفريقياً. وليس من الممكن تحقيق مثل هذا الحوار، أي في الواقع تجنب الحرب الحضارية التي أصبحوا موضوعاً حقيقياً لها والتحول إلى شريك دولي مقبول ومسموع، قبل أن يستعيد العرب صدقيتهم ويصلحوا شؤونهم الداخلية. ومنذ الآن، ما دام العرب لم ينجحوا في أن يكونوا شيئاً في السياسة الدولية، فلن تكون لهم أيضاً سياسات وطني