نواصل اليوم تحليلنا النقدي للخطاب «الإخواني» الذي بدأناه في مقالنا المنشور في (17 يوليو 2014) والذي اعتمدنا فيه على تحليل المقابلة المهمة التي أجرتها الصحفية «سها الشرقاوي» مع المستشار أحمد مكي وزير العدل السابق في عهد الدكتور «مرسي». وقد اهتممنا على وجه الخصوص بهذه المقابلة لأن المستشار «أحمد مكي»- ولو أنه يقول إنه ليس عضواً في «الإخوان» إنْ كان متعاطفاً معهم كما ظهر في المقابلة- إلا أن ما يميزه هو صراحته ونظرته النقدية سواء لحكم «الإخوان» أو للمشهد السياسي المصري بعد 30 يونيو. وهي صراحة يحمد عليها لأننا نحتاج في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ مصر إلى ممارسة النقد الاجتماعي المسؤول الذي يسمي الظواهر بأسمائها الحقيقية حسب وجهة نظر المتحدث. ومن أهم الأفكار التي طرحها المستشار «مكي»، والتي أشار لها بقوة عنوان المقابلة الصحفية «لم نصل لمرحلة الديموقراطية والمجتمع لم ينضج بعد». والواقع أن هذه المقولة لا ينفرد بها المستشار «مكي»، لأنها متداولة منذ سنوات سواء في الدوائر الأكاديمية أو في الدوائر السياسية. والدليل على شيوع هذه المقولة في الدوائر الأكاديمية العربية ما ورد بصددها في أهم ندوة علمية في الفكر العربي المعاصر عقدت عن الديموقراطية وهي الندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في قبرص بتاريخ 27 نوفمبر 1993. ولو رجعنا إلى أحد أبحاث الندوة المهمة التي قدمها الباحث المعروف الدكتور «بسام الطيبي»، والتعليقات عليه والمناقشات التي دارت حوله، لوجدنا فكرة استحالة تطبيق الديموقراطية في المجتمع العربي من دون استيفاء شروط مبدئية سبق للدكتور «شارل عيسوي» أن حددها حين قال «إن الأرضية الاجتماعية والاقتصادية في الشرق الأوسط ما زالت تفتقر للعمق الذي يؤهلها على أن تجعل الديموقراطية السياسية قادرة على تثبيت جذورها حتى تستطيع أن تتطور عليها، ويضيف:«أن التغيير وحده الذي سيجعل المجتمع قادراً على أن يخلق أسس الدولة الحديثة». قد تبدو هذه العبارات مجردة، غير أن عالم الاجتماع التونسي المعروف «الطاهر لبيب» في تعليقه على هذا البحث كشف النتائج العملية التي يمكن أن تترتب على هذه المقولة المجردة حين قال «إن البحث يشير إلى أنه لا ديمقراطية في مجتمع فقير متخلف»، وقد تم الاستشهاد بـ«شارل عيسوي» الذي قرر «إن لم يزدد الدخل الفردى في الشرق الأوسط إلى الضعفين أو ثلاثة أضعاف ما هو عليه الآن، فإن الجماهير ستبقى مشغولة بحاجاتها اليومية وسوف تتابع اللحاق بكل قائد ديماموجي «يعدها بتسهيل أمورها». وقد وجه «الطاهر لبيب» انتقادات حادة لهذه المقولات التي تذهب إلى أن شيوع الفقر في المجتمع العربي أحد موانع تطبيق الديموقراطية. ولو عدنا إلى تصريحات المستشار «مكي» لوجدناه يتناقض تناقضاً شديداً في موقفه من الديموقراطية. في موقف أول يتحدث عن المجتمع المصري باعتباره لم ينضج ديموقراطياً بعد، أما الموقف الثاني الذي يتناقض تناقضاً صريحاً مع الموقف الأول فقد جاء استجابة لسؤال طرح عليه وهو «ما تقييمك» بشكل عام للأجواء التي صاحبت العملية الانتخابية (والخاصة بانتخابات رئاسة الجمهورية الأخيرة). وكانت إجابته نصها كما يلي "الاستقطاب كان هو النغمة السائدة، والجميع اعتبر أن إزاحة جماعة الإخوان المسلمي هدف كاف لانتخاب الرئيس. فكان من الممكن أن يزيح الإخوان أي أحد، لكن الإزاحة تأتي بالطرق الديموقراطية وعبر وجود جماعة سياسية منافسة تغلبها". ومعنى ذلك أن المستشار مكي ينكر صلاحية المجتمع المصري لتطبيق النظام الديموقراطي لأنه لم ينضج بعد، ولكنه في الموقف الثاني – يرفض بشكل قاطع ما حدث في 30 يونيو وما تلاه في 3 يوليو من عزل الدكتور مرسي- مشيراً إلى أنه لا ينبغي أن يتم ذلك إلا بالطرق الديموقراطية! والواقع أن الحل الذي يقترحه المستشار مكي كان يقتضي – حتى لو سلمنا بصلاحية الديموقراطية للتطبيق في المجتمع المصري- أن ينتظر الشعب حتى يكمل الدكتور مرسي مدته الدستورية لمدة ثلاث سنوات أخرى، أو يقبل فكرة إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وهو ما رفضه تماماً. ولو ناقشنا بموضوعية اقتراح التغيير الديموقراطي لرئيس الجمهورية "الإخواني" لاكتشفنا أنه اقتراح خادع، وضعاً في الاعتبار مشروع جماعة "الإخوان المسلمين" في "أخونة الدولة وأسلمة المجتمع". والدليل العملي على ذلك أن جماعة "الإخوان" أخذت تبث كوادرها في مفاصل الدولة الحاكمة وأهمها تعيين عدد من أعضائها محافظين وفق خطة تجعل المحافظين جميعاً إلا قليلاً من أعضاء الجماعة، ثم كانت ستسيطر بعد ذلك على المجالس المحلية حتى تضمن أن يكون لها الغلبة. ومما يؤكد هذا الاتجاه الاستئثاري بالسلطة أن مكتب إرشاد الجماعة حرص على الانتهاء بأسرع وقت من وضع الدستور، وأصدر مرسي قراراً جمهورياً بالاستفتاء عليه ليلة تسلمه من رئيس الجمعية التأسيسية المعيبة في تشكيلها. بعبارة أخرى لو انتظر الشعب ثلاث سنوات أخرى لكان معنى ذلك انتخاب رئيس جمهورية "إخواني" جديد يضمن استمرار حكم "الإخوان" إلى الأبد كما صرح بذلك أحد زعمائهم. ولكن للموضوعية والإنصاف يمكن القول إن المستشار "مكي" ليس وحده الذي يأخذ من الديموقراطية موقفاً متناقضاً. وذلك لأن المشكلة حقاً محيرة ومقتضاها كيف في شعب نسبة الأمية فيه 40% وعدد من يقعون تحت خط الفقر 26 مليون مواطن، ومن يقطنون في العشوائيات 16 مليون مواطن، كيف له أن يمارس الديموقراطية بصورة سليمة ويتغلب على هذه المعوقات الثقافية والاقتصادية؟ غير أن هذا الاتجاه ينكر في الواقع التاريخ الديموقراطي المصري، والذي تبلور في العصر الليبرالي ابتداء من دستور 1923 حتى ثورة 23 يوليو 1952، حين كان حزب "الوفد" هو حزب الأغلبية والتي كان يحصل عليها لأن إرادة الشعب الديموقراطية فرضتها على الحكم الملكي. ولنا – بالإضافة إلى ذلك- أن نتساءل: أليس خروج الشعب في ثورة 25 يناير مطالباً بالحرية والعدالة الاجتماعية، ممارسة ديمقراطية رفيعة المستوى؟ وألم تؤكد هذه الحقيقة خروج الملايين في 30 يونيو لإسقاط حكم "الإخوان المسلمين" بعد أن انتخبتهم الغالبية ديموقراطياً، بعد أن أدركت خطورة هذا الحكم على كيان الدولة وتماسك المجتمع؟ غير أن هذا النقد الذي نوجهه إلى المستشار مكي لا يمنع من تحيته على موضوعيته، حين قرر أن "الإخوان المسلمين" جاؤوا من دون برنامج سياسي حقيقي، وأضاف إضافة مهمة تستحق التعليق عليها فيما بعد، وهو أن "مشكلة مصر منذ ثورة 25 يناير أنه لا توجد خطط جامعة للشعب سواء من الثوار أو الأحزاب".