واجهت حركة «حماس» خلال العدوان الإسرائيلي على غزّة تداعيات الصراع السياسي - الاجتماعي الدائر عربياً حول تيار الإسلام السياسي وأدواره في تأزيم مسائل الحكم واستعادة الاستقرار، وكذلك في تعريض بعض الدول لمخاطر الإرهاب والتقاتل الأهلي أو التفكك والتقسيم. ولا يعني ذلك أن الرأي العام العربي فقد حساسيته المعادية لإسرائيل، لكنه وجد نفسه يضع حرب غزّة تلقائياً في سياق حروب سوريا والعراق وليبيا واليمن، فضلاً عن فصول الإرهاب الدموي المستمرّة في مصر وتونس. صحيح أن الفصائل الفلسطينية غير متهمة عربياً ولا أوروبياً بالإرهاب، وأن المجتمعات العربية لا تحمّلها مسؤولية ما تعانيه داخلياً مع الجماعات الإسلامية المتطرفة، إلا أن أزمة الثقة المتفاقمة انطلقت من التخصيص إلى التعميم بالنظر إلى التحالفات بين هذه الجماعات، أو التفاهمات الموضوعية بينها وبين جماعات مرتبطة بإيران. ولا شك أن هذه التقديرات المتمازجة والمتشابكة أثّرت سلباً على الموقف العربي العام من العدوان الإسرائيلي، تماماً كما فرضت السلبية نفسها على الصراعات القائمة في بلدان عربية وبلغت حدوداً دموية غير مسبوقة. هناك ملايين من المواطنين العرب يعيشون حالياً مصائر مرّ بها الفلسطينيون ولم يكونوا يتصوّرون أنهم سيتعرضون لها تهجيراً واقتلاعاً وتشريداً من دون أي أفق لاستقرار قريب أو لحلول يستعيدون معها بعضاً من ذكرياتهم وحياتهم أومن هويتهم التي بالكاد توصّلوا للتعرّف إليها. وواجهت إسرائيل في هذه الحرب تغييراً في النظرة الغربية إليها. لم يكن مفاجئاً بالنظر إلى «العزلة الدولية» التي ما فتئ كتابها وصحافيوها ينبّهون إليها. لكنه تغيير بدا كأنه تجذّر أكثر فأكثر بعد تناميه تدريجياً خلال الأعوام الماضية، إذ أدّى في أدنى الاحتمالات إلى تعاطف غربي مشروط معها، وفي معظم الحالات إلى استنكار ورفض للقوة المفرطة التي تمارسها وللوحشيّة التي تسم استهدافها المتعمّد للمدنيين، ذاك أن الرأي العام الغربي الذي كان يغلب عليه الاصطفاف العفوي وراء سياسات حكوماته وإعلامه المنحاز تقليدياً لإسرائيل، لم يعد يجهل مغزى ما يراه من صور وما يسمعه من تحليلات تُناقض الواقع. حكومات واشنطن ولندن وبرلين وباريس لا تزال متمترسة وراء «ثوابتها» الإسرائيلية، لكنها تشعر اليوم بأنها مكشوفة، وبينها وبين مجتمعها سوء تفاهم بسبب تضليل إعلامي وسياسي يسعى إلى بناء قضية قوامها أن الدولة العبرية في خطر ومهدّدة من قطاع غزّة، لكنها قادرة على اجتياحه وقتل وإصابة آلاف من أبنائه وتدمير آلاف من منشآته، وأنها دولة في خطر لكنها تضرب حصاراً على غزّة وتجوّع أهلها وتجعل من القطاع أكبر سجن في العالم. لذلك يتساءل المواطن العادي: مَن هو في خطر حقّاً، ومَن يهدد مَن؟ وحتى السؤال الذي تطرحه إسرائيل دائماً: هل ترضى أي دولة بأن يكون مواطنوها تحت رحمة صواريخ كالتي تُطلق من غزّة؟ هناك من يردّ عليه بسؤال مضاد: وهل يُتوقع من أي شعب أن يستسلم ويرضخ لحصار بري وجوي وبحري ولا يحاول كسره بأي وسيلة؟ لا فرق بين أن تكون صواريخ غزّة محقّة ومبرّرة أو مرفوضة ومدانة تستحق غزواً لإسكاتها، ففي الغرب فهموا أمرين: أولاً أن ثمة أسباباً لإطلاقها، وثانياً أنها بدائية ومحدودة الأخطار، وأن إسرائيل منحت مجاناً منظومة مضادة لإيقافها بل نالت مساعدة إضافية من الكونجرس لتعزيزها. لكنهم لم يفهموا لماذا لا تتوصّل حكوماتهم إلى حلول سياسية تجنّب إسرائيل الخطر وترفع الحصار عن غزّة وشعبها، بل لم يفهموا أيضاً لماذا يُراد لهم أن يقبلوا مجازر تقتل عائلات بأكملها فيما يكون أفرادها نياماً ولماذا يُقتل أصلاً أطفال لجأوا مع عائلاتهم إلى مدارس «الأونروا» ولماذا تعتبر إسرائيل أنها تستحق تأييداً غربياً مؤكّداً حين ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية واضحة المعالم... بالنسبة إلى كثيرين في الغرب لا يمكن قبول جرائم كقتل أطفال يلعبون الكرة على الشاطئ أو في باحة بين الأبنية. منذ بداية هذه الحرب كثرت التحذيرات لإسرائيل بضرورة الحدّ من التعرّض للمدنيين، وتبرّع الرئيس الأميركي بتأكيد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي طمأنه إلى أن إجراءات دقيقة اتخذت في هذا الشأن، بعد أكثر من ثلاثة أسابيع تأكّد أن المدنيين كانوا الهدف الأسهل والمفضل للجيش الإسرائيلي. وللمرّة الأولى لم تستطع أكاذيب الإسرائيليين حمل مجلس الأمن على تجاوز قصف مدرسة «الأونروا» في مخيم جباليا، بعد مدرسة بيت حانون، وكانت الإدانة واضحة وإنْ حال الأميركيون دون صدورها. وكان مفوض وكالة الغوث "بيار كراينبول" واضحاً بإعلانه أنه جرى إبلاغ إسرائيل 17 مرّة بأن مدرسة جباليا تضم عائلات لاجئة، ومع ذلك أقدموا على قصفها، فيما صرّحت مديرة العمليات الإنسانية "فاليري آموس" بأنه لم يعد هناك مكان آمن في غزّة. يبدو أن حكومة المتطرّفين في إسرائيل استغلّت مرور سقوط عشرات آلاف القتلى في الحروب الأهلية العربية، المشتعلة حالياً، لتعتبر أن المجتمع الدولي لم يعد يهتم بالخسائر البشرية، لذا تعاملت معها كـ «أضرار جانبية» يجب ألا تمنعها من تحقيق أهدافها العسكرية. أما «حماس» والفصائل الأخرى، فترى أن أهل غزّة كانوا ولا يزالون مستعدّين لكل التضحيات شرط كسر الحصار. قد لا تحقق الحرب للغزيين ما تمنوه، أما الإسرائيليون فحققوا بعض أهدافهم ومنها ضمان تكرار مثل هذه الحرب بعد فترة.