بمنحهم أكثر من 53 بالمئة من أصواتهم الانتخابية لـ «جوكو ويدودو» الشهير بـ «جوكوي» في الانتخابات الرئاسية التي انطلقت في التاسع من يوليو المنصرم، أثبت الإندونيسيون أنهم اختاروا المضي نحو المستقبل، وأسدلوا الستار نهائياً على الماضي القبيح الذي كان يمثله منافس «جوكوي» الأبرز الجنرال المتقاعد «برابويو سوبيانتو» صاحب الملفات السوداء الملطخة بالقمع والتطهير العرقي للشعب التيموري في عهد والد زوجته الجنرال سوهارتو، والتي جعلت الإندونيسيين يسمونه «بينوشيه إندونيسيا» تشبيهاً له بدكتاتور تشيلي الراحل. وتمثل هذه النتيجة - على الرغم من عدم قبول «سوبيانتو» بها ولجوئه إلى الطعن الدستوري - انتصاراً لكبرى ديمقراطيات العالم الإسلامي وثالث أكبر ديمقراطية في العالم، انطلاقاً من حقيقة ما يمثله «جوكوي» 53 عاماً من تطلعات شبابية تتناغم مع تطلعات فئة الشباب والطبقة الوسطى الإندونيسية، فضلاً عن أن المرشح الفائز أثبت أنه إداري ناجح قادر على مواجهة التحديات حينما كان عمدة للعاصمة جاكرتا، ناهيك عن أنه يجسد على خلاف كل أسلافه ميلاد طبقة جديدة من الساسة الذين لا علاقة لهم بنظام سوهارتو البائد، ولم تتلوث أياديهم بالقتل والفساد والإفساد. وقبل أن نسلط الضوء على جوانب من سيرة الرجل الذي سيقود هذا البلد الأرخبيلي المكتظ بالسكان والمتعدد الإثنيات والأعراق والثقافات من الآن وحتى 2018، دعونا نتحدث قليلاً عن الشخصية التي نافسته وخرجت من السباق خاسرة رغم الدعم القوي الذي تلقته من بعض الفئات، التي راهنت لمصالحها الخاصة على إمكانية إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. حينما تولى «يوسف حبيبي» قيادة إندونيسيا في 1998 كرئيس انتقالي خلفاً لسوهارتو واجه ضغوطاً شعبية قوية، لتشكيل لجنة خاصة للتحقيق في مقتل واختفاء عدد من الناشطين السياسيين ودعاة الديمقراطية من طلبة جامعة «تريساكتي» في ربيع 1998 فضلاً على مقتل الآلاف من أبناء تيمور الشرقية في معسكرات التطهير العرقي. فكان من الطبيعي أن يكون «سوبيانتو» أول من يتحسس رقبته، وهو يواجه هذا التطور الذي لم يكن يتوقعه يوما من بعد طول جبروت ونفوذ، لأنه كان قائداً لقوات المهمات الخاصة المعروفة بـ «كوباسوس»، التي تولت تنفيذ تلك الأعمال القذرة. هنا بدأ الرجل يفكر جدياً بالهرب إلى خارج الحدود، ففكر ببعض الدول الآسيوية القريبة التي شهدت سنوات مراهقته وبعض الدول الأوروبية التي كانت لعائلته فيها استثمارات معتبرة، لكنه صرف النظر عنها خوفاً من استجابة هذه الأقطار لطلبات استرداده، ثم جاءه طوق النجاة من الأردن في صورة «جنسية شرفية» تمكنه من دخول الأراضي الأردنية والإقامة فوقها واتخاذها ملجأ آمناً بعيداً، بحسب ما أكده مدير مكتب رئيس الحكومة الأردنية في ديسمبر 1998. ومن بعد فترة من الزمن قضاها في الأردن وألمانيا وتايلاند عاد «سوبيانتو» إلى إندونيسيا، وأسس حزبه السياسي الخاص ليخوض به انتخابات 2009 التشريعية بدعم من عائلته الثرية وبقايا نظام سوهارتو. أما «جوكوي» المرشح الفائز بالرئاسة، فقد بدأ حياته السياسية في 2005 من خلال انضمامه إلى حزب النضال من أجل الديمقراطية بقيادة السيدة «ميغاواتي سوكارنو بوتري» ابنة الرئيس الأسبق سوكارنو. وتحت لواء هذا الحزب خاض المنافسة على منصب عمدة مدينة «سولو» حيث مسقط رأسه، ففاز به وقام إثر ذلك بعملية تغيير شاملة تحولت «سولو» بموجبها من مدينة تعاني من الجريمة والانحلال إلى مركز سياحي وثقافي بارز، الأمر الذي دفع الناس إلى التجديد له في 2010، لكن الرجل استقال في منتصف ولايته الثانية لينافس على منصب عمادة جاكرتا الذي فاز به أيضا. ومثلما فعل في «سولو» فعل في جاكرتا الضخمة المزدحمة لجهة توفير المزيد من الخدمات الأساسية وتقليل حجم الازدحام وتحسين الظروف المعيشية وتخفيف الإجراءات البيروقراطية والنزول بنفسه إلى الشارع لملامسة مشاكل الجماهير مباشرة مما أكسبه وهجاً سياسياً مضاعفاً، وجعله يحلم برئاسة البلاد، خصوصاً أنه بتواضعه الجم، وخلفيته العائلية المتواضعة، وبنيته الجسدية الضعيفة، وابتسامته الودود، ونزاهته، وعقيدته الإسلامية الوسطية، وتنقله على ظهر دراجة عادية، يجسد حالة عشرات الملايين من الإندونيسيين الطيبين غير الملوثين بالفساد والبهرجة الزائفة والغلو الديني. ولد «جوكوي» لعائلة متواضعة فقيرة كانت تعمل في نجارة أخشاب الغابات، وفي سنوات طفولته عمل مساعداً لوالده في فترات ما بعد المدرسة، متحملاً حياة قاسية ومقيماً في كوخ مصنوع من أعواد الخيزران، وكانت تسليته الوحيدة آنذاك وحتى اليوم هي العزف على الجيتار وغناء أغاني الروك. وحينما جاء وقت التحاقه بالتعليم الثانوي كان تواقاً للالتحاق بإحدى أفضل مدارس سولو الثانوية، وحقق ما تطلع إليه إلا أن أيادي خفية فاسدة تدخلت على الرغم من درجاته العالية واجتهاده لتنقله من تلك المدرسة إلى مدرسة فنية لم يكن يستهويها كي يُعطى مقعده لطالب آخر. حصل «جوكوي» من المدرسة الأخيرة على شهادة في الهندسة في 1985 مكنته من العمل في طاحونة للب في أحد المرتفعات الوعرة بإقليم أتشيه بسومطره. وبعد أربع سنوات من الكفاح والشقاء تمكن من تأسيس مشروعه الخاص للأثاث الذي صار بحلول 2010 مشروعا رائدا تقدر قيمته بـ 1.5 مليون دولار. تحدث «جوكوي» أكثر من مرة لوسائل الإعلام المحلية عن حياته الاجتماعية، فقال إنه تزوج من بعد قصة عاطفية بزوجته الحالية السيدة إيريانا ورزق منها بثلاثة أطفال، وإنه يعيش معهم حياة أسرية سعيدة، مضيفاً أن أسرته كانت ضد انخراطه في عالم السياسة خوفاً من أن تأخذه المسؤوليات الكبيرة بعيداً عنهم فلا يجدون الوقت الكافي للاستمتاع بالخروج في رحلات. ومن خلال ما كتب ونشر عن الرجل يمكن القول إنه من أبناء إندونيسيا الأصليين ومن الإندونيسيين المحافظين على تقاليدهم الإسلامية، وذلك خلافاً لما أشاعه عنه خصومه من أنه من ذوي الأصول الصينية ومن ذوي المعتقد المسيحي. ويتطلع «جوكوي» طبقاً لتصريحاته للصحافة إلى بناء علاقات متوازنة مع مختلف دول العالم، في إطار من الاحترام المتبادل وعدم المس بالسيادة الوطنية لبلاده، مؤكداً أن استخدام القوة يجب أن يكون الملاذ الأخير لجهة التعامل مع النزاعات الإثنية، ومشدداً على ضرورة أن تقوم بلاده بتمتين قوتها البحرية كي تحظى باحترام العالم، وتستطيع الحفاظ على وحدتها. ـ ـ ـ ـ ـ ـ د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين Elmadani@batelco.com.bh