المثالية والطوباوية في التفكير داءٌ عضالٌ، وهي أكثر ضرراً حين تنتقل إلى قراءة المواقف السياسية أو تحليلها فضلاً عن جعلها هادياً يقود اتخاذ القرار السياسي، ويبدو أن هذه الطوباوية هي ما يشغل قادة «حماس»، أو أقله هي ما يروّجونه لأتباعهم في الداخل والخارج. خطاب حركة «حماس» السياسي بُني من الأساس على أيديولوجية دينية تمثل خلاصة خطاب حركات الإسلام السياسي وأكبرها وأقدمها جماعة «الإخوان المسلمين»، وهي تخلط في خطابها بين المثالية والطوباوية من جهةٍ وكل أدواء خطاب الإسلام السياسي، الذي يتعامل مع السياسة بالعاطفة والأيديولوجيا لا بالواقعية، وهنا بالتفكير الرغبوي والتوظيف السياسي للدين والاستهانة بدماء الفلسطينيين في سبيل تحقيق مكاسب سياسيةٍ للحركة لا للشعب الفلسطيني المغلوب على أمره في غزة. تقف «حماس» وقياداتها مع المحور «الإخواني» في المنطقة، ذلك الذي تمثله تركيا وقطر وفروع جماعة «الإخوان المسلمين» في المنطقة والعالم، ومن هنا فقد رفضت قيادات «حماس» «المبادرة المصرية» التي وافقت عليها الجامعة العربية، والتي كان باستطاعتها تقليص حجم الخسائر في الأرواح والبنى التحتية لقطاع غزة، لأنها لا تريد إعطاء أي فضلٍ للتحالف العربي السعودي الإماراتي المصري الذي يقود العالم العربي حالياً، ولئن كانت حركة «حماس» لا تجرؤ على مهاجمة هذا المحور بشكلٍ مباشر لأن ذلك سيضرّ بها داخلياً، وسيفرض عليها عزلة عربيةً ودوليةً كبيرةً، فإن أنصارها في الإقليم وبخاصة في دول الخليج العربي والأردن لم يتركوا وسيلةً للهجوم على هذا التحالف، إلا استخدموها ولم يدعوا كلمةً نابيةً إلا قالوها، وقد وصل بهم الحدّ للتخوين والتكفير في سبيل خدمة مصالح الحركة وأهدافها السياسية، وقد عبرت عن هذا الخط إعلامياً قناة «الجزيرة» الموالية لجماعة الإخوان المسلمين وتوابعها من القنوات الأصغر حجماً وتأثيراً وعبر عنه حركياً رموز وقيادات الإسلام السياسي عبر أنياب الإسلام السياسي منذ سنواتٍ طويلةٍ وهي «البيانات الجماعية». الدعاية الإعلامية التي تبناها هؤلاء جميعاً هو أن «حماس» ستنتصر على إسرائيل وستهزمها، وستحرر فلسطين وستعيد المسجد الأقصى في الجانب العملي وعلى الأرض، وأنها ستعيد مجد الإسلام والعرب وستحطم أسطورة الجيش الإسرائيلي، وستحيي كل معاني الافتخار والتميز لأمة مهزومةٍ، وهذا على الجانب المعنوي الذي خلاصته كلامٌ مرسلٌ لا يمكن صرفه واقعياً، ولكنه ينفع في التهييج والتجييش وما أسماه سيد قطب «مدارس السخط». وهنا يأتي الهدف الأخير من هذا التهييج اللاعقلاني واللاواقعي، وهو محاولة إحراج التحالف العربي أمام البسطاء من الشعوب العربية. إن الرؤى الاستراتيجية والمواقف السياسة الجادة لا يمكن التعامل معها بهذه البساطة، ولكن لأن جماعات ورموز الإسلام السياسي فاشلون في السياسة وحكمهم لمصر خير دليلٍ، فقد حسبوا أن الدول العربية ستغير مواقفها وسياساتها بمجرد ما يحسنونه من التهييج وخطابات المعارضة الفجة والخرافية في بعض الأحيان. ومن هنا، فقد تفاجأوا جميعاً باستمرار مواقف هذا التحالف ضد الألاعيب السياسية، وفي الوقت نفسه، دعم القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. دفعت السعودية والإمارات مئات الملايين لدعم الشعب الفلسطيني في غزة، واتخذ البلدان مواقف سياسية معلنة ضد الاعتداء الإسرائيلي في المحافل الدولية والمواقف الحكومية، وقدمت مصر كافة التسهيلات التي تحمي الشعب الفلسطيني في غزة، ولكنهم جميعاً لم يخضعوا للتجييش والتهييج الإعلامي والإسلاموي. لغة الأرقام تشي بحجم الفاجعة، والإحصاءات الرسمية توضح ضخامة المأساة، فقد «أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية أن حصيلة القتلى ارتفعت إلى أكثر من 1890 منذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة في الثامن من يوليو الماضي. وقال أشرف القدرة، المتحدث باسم الوزارة، إن حصيلة العدوان الصهيوني على قطاع غزة 1894 شهيداً، وأكثر من 9805 جرحى، غالبيتهم من المدنيين»، وتابع «إن عدد القتلى في ارتفاع، حيث إن قتلى يسقطون يومياً متأثرين بجراحهم التي أصيبوا بها إثر العدوان». ومع استمرار المفاوضات برعاية مصرية فإن «حماس» ستوقّع على هدنةٍ ما، لم تكتمل صياغتها بعد، ولكن أياً من الشعارات الجوفاء والتفكير الرغبوي والأحلام والأوهام التي تمّ ترويجها لن يتحقق، لأن موازين القوى بكل بساطة لا تسعف «حماس» لفرض أي شروطٍ أو الخروج بأي موقفٍ مشرفٍ يمنح القتلى والجرحى أي معنى يبرر خسائرهم الفادحة. المغامرات غير المحسوبة تودي بأصحابها إلى الخسران دائماً، وللأسف أن ذلك الخسران يحلّ وبالاً على الشعب الفلسطيني في غزة الذي تحكمه حركة «حماس» بالقوة منذ انقلابها العسكري في غزة وتقتيلها البشع لأعضاء حركة «فتح» حينذاك، وهي لم تعبأ بأي شكلٍ من أشكال الديموقراطية التي يتغنى بها حلفاؤها مزايدةً لا قناعةً، ولم تجر أي انتخاباتٍ تسمح للشعب الفلسطيني أن يعبر عن رأيه في رفض هذه الحركة واختيار بديلٍ عنها. تصعيد الأزمة في غزة إلى مستوى القداسة هو أمرٌ دبّر بليل، بمعنى أن ما يجري في غزة هي حربٌ عسكريةٌ وأزمةٌ سياسيةٌ تتعدد فيها الآراء والمواقف، وتختلف عليها الرؤى والتحليلات، فلا هي من قطعيات الإسلام، ولا من ثوابت العروبة، ولكن الإسلام السياسي بحركاته وتياراته صعّدوها لمستوى قطعيات الدين ليمارسوا تصفية حساباتٍ مع خصومهم السياسيين والفكريين، وفعلت الأمر ذاته الحركات والتيارات القومية واليسارية، التي بقيت لعقود لا تستطيع التحرك والتأثير إلا تحت عباءة الإسلام السياسي، الذي تحالفت معه بعد أفول نجمها وضياع بوصلتها وفشل مشروعها. الإسلام السياسي استخدم سلاح التكفير ضد مخالفيه في الرؤية والتحليل السياسي لما يجري في غزة، وذلك بقصد خنق الأصوات المعارضة لرؤيتهم وإجبارها على السكوت تحت ضغط الغوغاء من الناس وبقايا القوميين العرب واليسار أشهروا سلاح التخوين ضد خصومهم وهو أمرٌ مردوا عليه ولم يعودوا يحسنون غيره، وهم قد أصبحوا منذ أمدٍ غير قصيرٍ مطايا للإسلام السياسي يوجهها حيث يريد. أخيراً، فإن المثير عند المقارنة هو أن هؤلاء الذين تهافتوا على البيانات الجماعية بشأن غزة لم ينبسوا ببنت شفةٍ ضد تنظيمٍ مجرمٍ ومتوحشٍ مثل تنظيم «داعش» أو الدولة الإسلامية في العراق والشام، ولم تفجعهم جرائمه وبشاعاته وإنما نقموا منه أنه سلبهم «حلم الخلافة» الذي يعتقدون أنه حق حصري لهم.