بعد استدعاء حاكم ولاية ميسوري الأميركية قوات الحرس الوطني لتنهي ما بدأته شرطة مدينة فيرجسون المزودة بعتاد القتال، من الصعب ألا يسأل المرء عن فعالية أو حتى عن ذكاء هذا النوع من الشرطة شبه العسكرية؟ ويمكن تتبع الخط الفاصل بين عمل الشرطة والجيش بالعودة إلى قانون شرطة العاصمة للسير «روبرت بيل» لعام 1829 الذي أنشأ شرطة عسكرية جديدة للندن. وأوائل المفوضين لهذه الشرطة أقاموا خدمة شرطية غير مسلحة بقصد منع الجريمة وليس قمعها. وأعيد إنتاج هذه الفكرة بتفاوت في حظوظها من النجاح لتخدم المستوطنين البيض في المستعمرات البريطانية. وفي الوقت نفسه استخدمت الإمبراطورية البريطانية أسلوباً شرطياً مختلفاً في «مستعمرات الحكم» تجاه رعاياها المحليين في المستعمرات من أيرلندا إلى الهند. وهناك كانت قوات الشرطة شبه عسكرية في طبيعتها بغرض تعقب المعارضين وقمعهم. الفارق بعبارة أخرى يتوقف على إذا كان السكان الذين يتم حراستهم يعتبرون أصدقاء أم معادين، بمعنى إذا كانوا قاعدة دعم أم دهماء يجب إخضاعهم. ولاحقاً بدأ الخط الفاصل يصبح مبهماً مرة أخرى. وكتبت «إيما بيل» من جامعة «سافوي» في فرنسا العام الماضي أن النموذج الاستعماري يعود إلى عقر دار البلدان الاستعمارية، وينتشر عبر العالم. وهذا يحدث منذ سبعينيات القرن الماضي، عندما أصبحت وحدات شرطة مكافحة الشغب تتعامل مع الاضطرابات السياسية المتزايدة وإضرابات العمال. وأثناء أعمال الشغب في لندن عام 2011، تمت مناقشة استخدام مدافع المياه على نطاق واسع لكن ما كان من لندن إلا أنها عادت إلى شرائها. بل إن أحد الأشخاص الذي كان يجري مقابلة مع رئيس بلدية لندن «بوريس جونسون» طارد المسؤول حتى وافق على أن يواجه أحد المدافع كاختبار. لكن المسؤول لم يبر بوعده الخاص بأن: مدافع المياه وأسلحة السيطرة على أعمال الشغب الأخرى مثل الرصاص المطاطي قد تكون قاتلة أو تؤدي إلى إعاقة خطيرة. وكتبت «بيل»: بعد أن تزايد التفاوت في المجتمع بشدة اضطرت الشرطة لأن تقوم بوظائف السيطرة على الحدود بين الطبقات المستبعدة وبقية المجتمع، وبناء عليه تبنت أو أحيت أساليب الشرطة السلطوية التي كانت مقتصرة على المستعمرات. ومن المؤكد أن هذه هي الرؤية اليسارية للأمر. وهناك تفسيرات أكثر براجماتية للتضافر بين وظائف الشرطة والجيش. ففي عام 2004، ربط الباحث السويسري «ديريك لوتربيك» الأمر بتزايد التحديات عبر الحدود أمام قوات الأمن لفترة ما بعد الحرب الباردة مثل تجارة المخدرات والبشر والإرهاب. وأطلق «لوتربيك» على رد فعل الأجهزة الأمنية مصطلح «صعود الجندرامة»، مستخدماً اللفظة التي تطلق على قوات الشرطة العسكرية الفرنسية. وكانت هذه الشرطة في الأساس جزءاً من وزارة الدفاع، وكانت تسلح ببنادق آلية ثقيلة بل وحتى دبابات صغيرة، وانتقلت إلى وزارة الداخلية عام 2009 في إشارة واضحة إلى ذلك الاختلاط بين الشرطة والجيش. وأشار «لوتربيك» إلى أن ميزانيات وعدد أفراد الشرطة العسكرية على امتداد أوروبا في تزايد لتتعامل مع التهديدات عبر الحدود في «نكوص عن أحد الإنجازات الكبيرة للدولة الأمة الحديثة»، وهو تطور الشرطة المدنية باعتبارها خدمة للجمهور وليس قوة قمع. ومع استمرار هذا النكوص، أصبح ضباط الشرطة حول العالم مقتنعين أنهم يخوضون حرباً على شيء ما أو آخر سواء كان المخدرات أو الإرهاب أو الفوضويين أو التخريب السياسي. وهذه العقلية تتناقض مع المفهوم الثابت بشأن واجب الشرطة، وهو تحقيق استتباب الأمن في الشوارع، وهذا صراع في المفاهيم قد يؤدي إلى نتائج غير متوقعة. وتقدم أوكرانيا مثالاً في الأونة الأخيرة. ففي 30 نوفمبر الماضي، ضربت شرطة مكافحة الشغب بضع مئات من الطلاب الذين كانوا يخيمون في الميدان الرئيس في العاصمة كييف للدعوة إلى تعزيز العلاقات بين أوروبا وأوكرانيا. ولم يتعود الأوكرانيون على أن يُعاملوا مثل سكان المستعمرات. ونزل مئات الآلاف إلى الشوارع في اليوم التالي، مما أطلق سلسلة من الأحداث التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش، والأزمة الحالية على حدود أوروبا الشرقية. وما حدث في أوكرانيا من رد فعل على بطش الشرطة يساعد في تفسير عدم نجاح الشرطة المدججة بالسلاح في فيرجوسون بولاية ميسوري الذين بدا أفرادها أكثر تهديداً وخطورة، وكانوا مزودين بعتاد أكثر مما يحمله الجنود الأميركيون في العراق. والآن يعاونهم قوات الحرس الوطني التي هي شبه عسكرية في حد ذاتها. ويوم الثلاثاء الماضي طلبت قوات الشرطة الأميركية في مدينة فيرجسون بولاية ميسوري من عشرات المحتجين أن يتفرقوا، واعتقلت منهم عدداً في الليلة الحادية عشر للاحتجاجات المتواصلة على مقتل شاب أسود أعزل على يد شرطي أبيض. وتخللت احتجاجات الشوارع في المنطقة التي تسكنها غالبية من الأميركيين السود عمليات سلب ونهب وصدامات بين المحتجين والشرطة كل ليلة منذ في التاسع من أغسطس الجاري، حيث مقتل «مايكل براون» البالغ من العمر 18 عاماً. وتسليح الشرطة بسلاح الجيش وتجهيز أفرادها بعتاد المعارك يمثل وصفة مثالية لخلق صراع عنيف من العدم، وتحقيق عكس المطلوب، وهو استقرار النظام العام. ويتعين على الحكومات أن تبذل جهوداً لإقناع المواطنين بأنها تنظر إليهم باعتبارهم حلفاء، وليس أعداء، وحينئذ سيقل عدد مثيري الشغب وحركات التمرد التي يتعين على الجيش أو القوات شبه العسكرية قمعها. ليونيد بيرشيدسكي روائي وكاتب مقيم في موسكو ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»