شهدت البورصات الأميركية والأوروبية حالة من التقلب على مدار الأسابيع الماضية، وسط توقعات بصراع مسلح محتمل بين روسيا وأوكرانيا. وفي الداخل الأوكراني، بات من المؤكد أن قوات كييف تدحر الانفصاليين المدعومين من موسكو، وقد نجحت بصورة أثارت دهشة كثيرين، ربما من بينهم الكرملين. ومن ثم زادت مخاوف الانزلاق نحو تدخل روسي مباشر. وفي حين أسهمت شائعات عن وجود مواجهات مسلحة الأسبوع الماضي في تذبذب الأسواق، يكاد لا يوجد دليل على أن هناك أعمالاً عدائية حقيقية بين الجيشين الوطنيين. ومن المفارقة، أنه في الوقت الذين لا تزال فيه أسواق المال الغربية حساسة تجاه مستقبل أوكرانيا، يبدو أن الرئيس باراك أوباما غير عابئ أو مهتم. وفي الحقيقة يبدو الرئيس غير مكترث ليس فقط بما يحدث في أوكرانيا، ولكن أيضاً بالفوضى في أنحاء الشرق الأوسط. ولكن أيام العطلة الصيفية في «مارثا فينيارد» لا يمكن أن تخفي واقع تواصل الجهود الروسية الرامية إلى الهيمنة على الدول المستقلة التي كانت في السابق جزءاً من الاتحاد السوفييتي. ولا تزال المخاطر كبيرة بصورة استثنائية بالنسبة للولايات المتحدة وروسيا وأوروبا. ويجعل الحجم والقوة الاقتصادية المحتملة والموقع الاستراتيجي من أوكرانيا جائزة كبرى للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المصمم على استعادة «دور روسيا الحقيقي» على الساحة العالمية. وعلى رغم ذلك، من الصعب على بوتين أن يهيمن على أوكرانيا في الوقت الراهن، ولكن وضعه سيتحسن بشكل كبير إذا فقد الغرب تركيزه وقوة إرادته أو كلاهما. وهذا هو ما يحدث بالتحديد في الوقت الراهن. وعلى رغم الاهتمام بـ«قافلة المساعدات» التي أرسلها بوتين إلى أوكرانيا فيما بدا مقامرة دعائية واضحة، والتكهنات بشأن ما إذا كانت الشاحنات تحمل حقاً أسلحة للانفصاليين، إلا أن خطة روسيا الأساسية لا تتضمن الاستحواذ على مزيد من الأراضي الأوكرانية بالقوة. وبدلاً من ذلك، يرغب بوتين أن تذعن حكومة كييف لمصالح ومطالب روسيا، لكي لا تنفصل عن روسيا اقتصادياً أو سياسياً. وقد أساء بوتين استغلال نفوذه في نوفمبر الماضي عندما تسبب في إطاحة حكومة «فيكتور يانوكوفيتش» من السلطة، الأمر الذي بدا ضرورة عقب الاضطرابات الكبيرة، إلا أن الانتخابات أفرزت حكومة أقل إذعاناً في كييف. وقد كان الرئيس الروسي يحاول الانقلاب على خسائره، مدركاً أن لديه أوراقاً جيدة لا سيما على الصعيد الاقتصادي، في ضوء مبيعات النفط والغاز الروسية الكبيرة إلى أوكرانيا. ولم تسفر العقوبات الغربية أبداً عن أي تغير في حسابات بوتين؛ ذلك أن الأوروبيين أعربوا عن خشيتهم من أن تحدث آثاراً سلبية على اقتصاداتهم، وخلال الأسبوع الماضي تراجعت العملة الأوكرانية إلى مستوى منخفض قياسي ضد الدولار. ولكن نظراً لأن بوتين ليس مهتماً بالاستحواذ بشكل رسمي على مزيد من الأراضي، لا يعني ذلك أنه لا يسلح ويمول وربما يوجه الانفصاليين الموالين لروسيا. وهدفه هو إثارة شبح التقسيم، لكن دون التعجيل به حقيقة، ما لم يصبح ـ من وجهة نظره ـ الطريقة الوحيدة المنظورة لحماية مصالح روسيا الحدودية. ويجب أن يعلم بوتين أنه إذا استحوذ على مزيد من الأراضي، فإن بقية أوكرانيا ستنضم حتماً إلى «حلف شمال الأطلسي» و«الاتحاد الأوروبي»، وستظل معادية لموسكو في المستقبل المنظور. ولكن بدلاً من ضم نصف الدولة وتحويل بقيتها إلى أعداء، يفضل بوتين تحييد أوكرانيا بأسرها على حدود روسيا الغربية. ولعل ذلك هو ما يسعى بوتين لإنجازه عندما يلتقي رئيس أوكرانيا الجديد «بيترو بوروشينكو» الأسبوع المقبل. ولكن لماذا ضم بوتين شبه جزيرة القرم؟ من المؤكد أن ذلك لم يحل مشكلة أوكرانيا، وإنما أدى إلى تغير ميزان الناخبين في أوكرانيا ضد روسيا. ولكن من جهة أخرى، حظيت تلك الخطوة بشعبية واسعة النطاق في روسيا، وهو ما عزز وضع بوتين في الداخل. ولكن لسوء الحظ، أدى رد الغرب غير الملائم بصورة مؤثرة على ضم القرم دون شك إلى اقتناع بوتين بأنه لو اضطر، فيمكنه اقتطاع مزيد من الأراضي الأوكرانية بتكلفة منخفضة يمكنه قبولها، حتى وإنْ كانت هذه خطة احتياطية أقل جاذبية. وحسب تقارير البيت الأبيض، وبخ أوباما بوتين مراراً بسبب انتهاكه القانون الدولي. بيد أن ذلك، إضافة إلى العقوبات المتقطعة غير المنهجية، ربما يبهر مساعدو أوباما لكن له تأثير عكسي تماماً على بوتين الذي يرى ضعفاً وتراجعاً أميركياً. وعلى الرغم من أن الوقت قد تأخر كثيراً، لكن لا يزال بمقدور الولايات المتحدة الرد بصورة حاسمة، برهانها على اتخاذ موقف قوي، إذ إن تمزيق أوصال أوكرانيا على خلاف رغبتها أمر غير مقبول. وعلى واشنطن أن تمد كييف بالأسلحة والمساعدات الأخرى، بينما تعمل على إنعاش خطة الرئيس جورج بوش في عام 2008 الرامية إلى سرعة ضم أوكرانيا لعضوية حلف شمال الأطلسي «الناتو». وبفعل ذلك، ستزيل الولايات المتحدة منطقة الغموض، التي يستفيد منها بوتين، بين «حلف شمال الأطلسي» وروسيا، حتى لو أن قيادة أوباما الضعيفة أفضت إلى ضياع القرم بسبب حسن النية. وبترسيخ نوع من قوة الردع المؤثرة التي أقنعت روسيا بعدم استخدام القوة العسكرية ضد «الناتو» منذ إنشائه، يمكننا منع إثارة أية أعمال عدائية روسية في المستقبل. ولابد من إدراك أن هناك قوى أخرى باستثناء روسيا، لا سيما الصين التي تزعم حقها في بحري الصين الجنوبي والشرقي، والدول الناشرة للأسلحة النووية مثل كوريا الشمالية وإيران، ومثيري المتاعب الإقليميين مثل فنزويلا والإرهابيين والدول الراعية لهم عالمياً، وجميع هذه القوى ترى النموذج ذاته. ويعني ذلك أن ضعف أميركا لن يفضي إلى عالم أكثر سلمية، وإنما العكس تماماً. ----------- يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. انترناشونال»