اللعب بحركات التطرف الديني
قبل أن تسمح السلطات الرسمية الأميركية بتسويق دواء جديد تنتجه المختبرات الخاصة بصناعة الأدوية، تحرص هذه السلطات على التأكد من أمرين أساسيين. الأمر الأول هو نجاح الدواء في معالجة المرض الذي أنتج من أجل مكافحته، والأمر الثاني هو التأكد من أنه لا مضاعفات سلبية خطيرة نتيجة استعماله.
وفي الولايات المتحدة توجد مؤسسات للأبحاث والدراسات السياسية معتمدة من الحكومة الأميركية تلعب ذات الدور، ولكن للمعالجة السياسية لا الطبية. وإذا ?اقتنعت ?الإدارة ?بمقترحاتها ?تتبناها ?وتبادر ?إلى ?تنفيذها. وفي عام 2007 أعدّت إحدى المؤسسات الأميركية المختصة الدواء الجديد ضمن الحرب على الإرهاب. وهذه المؤسسة هي «راند كوربوريشين» Rand Corporation?. وقد ?عرضت ?وصفة ?جديدة ?تلقفتها ?الإدارة ?الأميركية ?بسرعة?. و?تقول ?هذه ?الوصفة ?إنه ?بدلاً ?من ?مواجهة ?الإرهاب، ?فلنعمل ?على ?احتوائه.
ولكن كيف؟ تجيب المؤسسة على هذا السؤال باقتراح يقضي بالعمل على تشجيع «الإرهابيين الإسلاميين» على التجمع في الشرق الأوسط، ومن ثم استعداء بعضهم على بعض، بحيث تتولى فصائلهم المتعددة والمتنافسة القضاء على بعضها بعضاً.
ولكن كيف يمكن تشجيع جماعات الإرهابيين على التجمع؟
تجيب الوصفة الجديدة: بتمكين فصيل من فصائلهم الوصول إلى السلطة في دولة ما، أو في جزء منها. حتى إذا تم له ذلك تتحرك الفصائل الأخرى لمقاسمته الغنائم.. أو لمنافسته على السلطة.
ومصر مسرحاً للتجربة الأولى عندما تمكنت حركة «الإخوان المسلمين» من الوصول إلى الحكم. ولكن قبل أن تثبت أقدامها بما يشجع الحركات الإسلامية الأخرى على التحرك داخل مصر وخارجها لمنافستها على السلطة، جرى الانقلاب عليها. وقد أدت إطاحة حكم «الإخوان المسلمين» في مصر إلى إفشال المرحلة الأولى والأساس من مراحل الوصفة الجديدة لتجميع حركات التطرف الإسلامي وإغرائها عن طريق الوصول إلى السلطة. فكان وراء رد الفعل الأميركي الغاضب بمعاقبة مصر وتجميد اتفاقات التسلح معها، وعدم الاعتراف بسلطة ما بعد «الإخوان المسلمين».
خسر المشروع الأميركي جولته الأولى في مصر، ولكنه لم يخسر المعركة الإقليمية. فالجبهة العراقية مفتوحة، وربما تكون مهيأة أكثر من الجبهة المصرية لتجربة «الدواء» الجديد، وإثبات جدواه.
فالعراق يعاني بسبب قصر نظر نوري المالكي وبسبب تعصبه المذهبي المقيت، من انقسام مذهبي، إضافة إلى ما يعانيه من انقسام عنصري مع الأكراد. ثم إن العراق بالنسبة للولايات المتحدة لا يزال تحت السيطرة. وأوراق اللعبة الداخلية لا تزال في متناول اليد الأميركية. وهكذا فتحت الحدود السورية- العراقية أمام حركة «داعش»، كما تفتح بوابات القفص الحديدي لإطلاق وحش كاسر. فانطلقت الحركة لتحصد ما زرعه التعصب المذهبي من كراهية وبغضاء ومن انقسامات وطنية. غير أن هذه الحركة بعد أن تمكنت من احتلال آبار النفط، ومن مصادرة أموال فرع المصرف المركزي العراقي في الموصل والودائع التي تحتفظ بها فروع المصارف المحلية الأخرى، وبعد أن صادرت الأسلحة والذخيرة التي كان يحتفظ بها الجيش العراقي في ثكناته التي هجرها، بدت كالوحش الذي لم يعد يحتاج إلى أن يحصل على الطعام من يد مروّضه.. فخرجت عن حدود اللعبة التي ما كانت في الأساس شريكاً فيها، وإنْ كانت جزءاً منها.
وفي الأساس كان الهدف إيجاد «قرص عسل» يستقطب الإرهابيين والحركات الإرهابية من كل العالم. وبدت سوريا وكأنها ذلك القرص الجذاب. فتدفقت إليها مجموعات «المجاهدين» من كل حدب وصوب. وأبدت الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا ارتياحاً لنجاح المرحلة الأولى من عملية الاستقطاب والتجميع في مكان محدد.. وأبدت ارتياحاً أكثر من عملية الاقتتال بين هؤلاء المتنافسين على قرص العسل الوهمي.
وجرت المحاولة ذاتها في ليبيا أيضاً. ويشير استمرارها هنا إلى أن المحاولة لم تفشل، وأنها لا تزال تؤدي وظيفتها «العلاجية»!. وجرت محاولة أخرى في مالي وكان «قرص العسل» هناك نفط الصحراء الجزائرية، ولكن هذه المحاولة تعثرت بعد التدخل العسكري الفرنسي، ونتيجة لنجاح التعاون العسكري الجزائري- التونسي المشترك في التصدي لها.
ولم تفشل المحاولة في العراق.. حتى بعد أن تجاوزت «داعش» الحدود المرسومة لها في لعبة الاستقطاب.. ذلك أن الهدف كان ولا يزال، التصفية الذاتية للحركات الإرهابية التي تتخذ من الإسلام شعاراً لها.
إن مجرد عرض أسماء الحركات التي ترفع الشعار الإسلامي في سوريا والعراق وعددها يتجاوز العشرات، يدل على نجاح المرحلة الأولى من الوصفة العلاجية وهي «التجميع». ثم إن التقاتل بين هذه الحركات يدل على نجاح المرحلة الثانية، وهي «التصفية الذاتية». فقد بدأت الحركات تتقاتل فيما بينها، متجاهلة «العدو» الذي توهمت أنها «تجاهد» من أجل التخلص منه والقضاء عليه.
وربما لم يكن في حسابات الذين أطلقوا سراح الوحش «الداعشي» أن يرتكب كل هذه الجرائم، وبكل هذه الوحشية. ومن أجل ذلك بدت الوصفة الطبية السياسية التي وضعتها مؤسسة «راند كوربوريشين» غير صالحة وغير مجدية. ومن أجل ذلك كان التدخل الأميركي- الأوروبي العسكري و«الإنساني» لاحتواء مضاعفاتها المدمرة تمهيداً لإعداد وصفة طبية سياسية جديدة تقدمها «راند كوربوريشين» أو سواها من مؤسسات الدراسات والأبحاث الأميركية التي تعتاش على إعداد مثل هذه الوصفات.
وإذا كانت وصفة مجابهة الإرهاب قد فشلت، وإنْ كانت وصفة احتواء الإرهاب قد فشلت هي أيضاً.. فما العمل الآن؟
من المرجح أن يكون أوباما قد طرح هذا السؤال على نفسه وعلى إدارته. ويبدو أنه قد حصل على الجواب. إن أي إدارة عندما تقرر أمراً ما ترسم له خطة عمل، وتضع خطة ثانية بديلة إذا فشلت أو تعثرت الأولى. فالرئيس الأميركي بدأ يخرج من قبعته أرنباً جديداً هو قصف «داعش» في سوريا والعراق. فمن ستكون الضحية التالية؟
لم يكن الرئيس المصري السابق حسني مبارك عدواً للولايات المتحدة، عندما تخلت الإدارة الأميركية عنه وتعاملت معه كالليمونة المعصورة، إذ ألقت به في سلة مهملاتها السياسية بعد أن عصرته حتى النقطة الأخيرة. وحدث هذا قبل ذلك مع شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي كانت الولايات المتحدة قد تآمرت مع بريطانيا لإعادته إلى العرش بعد إطاحة حكومة محمد مصدق. وحتى الرئيس العراقي السابق صدام حسين كان يتمتع بدعم أميركي عسكري ومخابراتي غير محدود طوال سنوات الحرب التي شنها على إيران.. ولما انتهت عملية عصر الليمونة، ألقي به في سلة المهملات. إنها لعبة الأمم.
عندما أعلن أوباما أنه لن يسمح بدخول قوات عسكرية أميركية مرة جديدة للقتال في العراق، فصدقوه. ولكن هذا الإعلان لا يعني نهاية القتال في العراق.. ولا في سوريا ولا في اليمن.. ولا في ليبيا.. فهناك من يقاتل بالوكالة. ذلك أن المطلوب هو تصفية القاتل والقتيل معاً. وهذا هو معنى ترجمة التحول في المعالجة من المجابهة إلى الاحتواء. وقد يسقط في عملية التصفية الذاتية هذه أبرياء كالمسيحيين المشرقيين والإيزيديين.. وسواهم..
ولكن ليس هذا هو المهم. المهم أن تثمر سياسة التحول (من المجابهة إلى الاحتواء).. إلى تجميع الجماعات «الجهادية» واستخدام دمها المراق لإعادة رسم خريطة المنطقة من جديد بحيث، يُصنع لكل جماعة كيان سياسي.. يكون خندقاً دائماً لمقاتلة الكيانات السياسية المستحدثة الأخرى.. وبحيث تستطيع إسرائيل أن تتمتع «بطول سلامة»!