يأتي كتاب الصحفية والباحثة الفرنسية المستقلة «آني دوبانتون» الجديد: «أوكرانيا..الاستقلال بأي ثمن» ليضع الأزمة الأوكرانية الراهنة على محك التفسير والتشريح من خلال عرض الخلفيات التاريخية والتراكمات السياسية والتطلعات المستقبلية، التي أدت في تفاعلاتها المزمنة إلى تفجُّر كيمياء العلاقة الصعبة الراهنة بين أوكرانيا وروسيا، وتعثر الحالة الأوكرانية من الداخل أيضاً بالنظر إلى التركة الثقيلة للعهد السوفييتي بما في ذلك طبيعة العلاقة المعقدة وشديدة الحساسية مع روسيا بشكل خاص. ذلك أن أوكرانيا منذ انفصالها عن الاتحاد السوفييتي السابق مع تفككه في بداية تسعينيات القرن الماضي، وهي في حالة مخاض عسير، حيث يتجاذبها تياران قويان، يدفعها أحدهما في اتجاه الاستمرار في التشابك والترابط مع موسكو بحكم العلاقات الاقتصادية والديموغرافية والتاريخية الواسعة، في حين يسعى التيار الثاني للحاق بالغرب، وله هو أيضاً أنصاره المتحمسون في الشارع، كما أن في المكاسب التحديثية والاقتصادية الكبيرة التي حققتها دول أخرى كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي والتحقت بالغرب قوة دفع إضافية شديدة التأثير والجاذبية لجهة إلهاب حماس وأشواق الأوكرانيين للتوجه غرباً، وقلب ظهر المجن لحلفاء الأمس القريب في الشرق. وترى الكاتبة أن ما زاد مأزق أوكرانيا الراهن هو سعيها الحثيث للفكاك من الاصطدام مع روسيا بوتين، مع أخذ مسافة أمان في الوقت نفسه من التبعية لها أو التحول إلى مخلب قط ضمن صراعها مع الغرب، ولذا تحاول كييف ألا تكون مجرد سن في عجلة دائرة في فضاء موسكو السياسي الأورو-آسيوي، وهذا ما تعبر عنه الهبّات والثورات الديمقراطية التي عرفتها منذ إعلان الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي في 24 أغسطس 1991، مروراً بالثورة البرتقالية، وصولاً إلى انتفاضة «ميدان» الأخيرة التي أدت إلى إسقاط الرئيس الموالي للكرملين، ومن ثم نشوب الأزمة الراهنة بكل ما عرفته من ردود فعل روسية بالغة الصعوبة وصلت إلى حد ضم شبه جزيرة القرم وما يعتقد أنه دعم واسع أيضاً للمتمردين في شرق أوكرانيا، حيث توجد أساساً المجموعات السكانية الناطقة بالروسية. وبين دفتي الكتاب الواقع في 492 صفحة، تقدم الكاتبة «دوبانتون» استعراضاً موسعاً وموثقاً لجميع مفردات المشهد الأوكراني تاريخياً واجتماعياً وسياسياً، مستفيدة في ذلك من معرفة واسعة بأوكرانيا، وقد ظلت لفترة طويلة مراسلة لإذاعة فرنسا الدولية في موسكو، ثم عملت بعد ذلك ملحقة ثقافية في العاصمة الأوكرانية كييف. ومن خلال تفكيك بعض تعقيدات المعادلة الأوكرانية تؤكد الكاتبة أن التوجه العام في المرحلة ما بعد السوفييتية ظل يشكل في حد ذاته وصفة للصراع وعدم الاستقرار بسبب افتراق توجهات القوى الديمقراطية مع القوى الأخرى المتعلقة بالماضي والتي لا تكنُّ أي ود للمنظومة الغربية التي تمثل نموذجاً للنظام الديمقراطي إن لم يكن واقعياً فعلى الأقل رمزياً في المخيال الأوروبي الشرقي. كما زادت من عمق المأزق أيضاً شدة الترابط الاقتصادي المتبادل بين موسكو وكييف، وهو ما وضع في يد الكرملين أوراق ضغط كثيرة، كإمدادات الطاقة، كان في مقدوره تحريكها كلما بدا أن التيار المناهض لروسيا يكسب جولة من جولات السجال والصراع الداخلي الأوكراني. ومن ضمن عوائق الاستقرار السياسي وأسباب استعصاء التحول الديمقراطي تلفت الكاتبة الانتباه أيضاً إلى قضايا الفساد وسوء التسيير في المرحلة ما بعد السوفييتية، وكذلك الدور بالغ السلبية الذي تلعبه الطبقة الأوليغارشية الثرية التي تتولى في الواقع، علناً أو ضمناً، تمويل الأحزاب السياسية الأوكرانية، وفق شبكات من توازنات المصالح والمحسوبيات، يمكن أن توصف بأي شيء سوى أن تكون وصفة جيدة لترسيخ الديمقراطية، في بلاد خارجة للتو، وبالكاد، من تحت نير الشمولية الشيوعية. وفي المجمل يسعى كتاب «آني دوبانتون» لجعل القارئ العادي يستكشف بعض خلفيات أزمة تشغل مساحة واسعة من نشرات وعناوين الأخبار في وسائل الإعلام اليوم، حتى يكون في مقدوره الحكم على مواقف الأطراف المتصارعة داخل أوكرانيا نفسها من جهة، وأيضاً لكي يفهم أسباب الاستقطاب الدولي الواسع حول الأزمة الأوكرانية، حيث تقف روسيا وحلفاؤها في جهة، فيما تقف كييف والعواصم الأوروبية وواشنطن في جهة أخرى، ضمن حالة اصطفاف دولي حادة أعادت التذكير بعودة أجواء الحرب الباردة من جديد، بعد مرور عقدين ونصف عقد من الزمن على الانتهاء الرسمي لتلك الحرب بسقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفييتي ومعسكر وارسو السابق. وفي خضم هذه الحرب الباردة الجديدة تلعب أوكرانيا نفسها دور الجائزة التي يسعى كل من الغرب وبوتين للفوز بها، في حين تسعى هي نفسها لتقرير مصيرها بيدها، وتحديد خياراتها الوطنية والسياسية بعيداً عن أية وصاية أو رعاية، ولضمان وحدتها الوطنية واستقلالها واستقرارها بأي ثمن، كما يقول عنوان الكتاب. حسن ولد المختار الكتاب: أوكرانيا.. الاستقلال بأي ثمن المؤلف: آني دوبانتون الناشر: بيشيه شاستل تاريخ النشر: 2014