في أيام حكم «الإخوان» أتيح لبعض المتطرفين والإرهابيين في مصر الانضمام إلى أمثالهم ممن يحملون السلاح ضد نظام بشار الأسد في سوريا، وهؤلاء يشكلون الآن جزءاً من تنظيم «داعش» الذي استولى على أجزاء شاسعة من الأراضي السورية والعراقية وأقام عليها ما يسميه «خلافة»! وفي الحقيقة فإن معتنقي الأفكار الدينية المتطرفة في مصر، كما هو في غيرها، طالما حلموا بالهجرة و«الجهاد» وشكلوا نواة لتنظيمات ذات طابع أممي ومنها «القاعدة». وإذا كان التنظيم الدولي لجماعة «الإخوان» جزءاً من كيان الجماعة، التي ولدت في ظرف تاريخي، جعلها تضع نصب عينيها منذ البداية ضرورة أن تعبر القوميات فإن الحركات الأكثر راديكالية لم يكن ضمن أولوياتها لحظة تشكلها التحرك خارج حدود الدولة، وتكوين «تنظيم دولي» ما، بل كانت أهدافها محددة في قضايا محلية أو داخلية، ذروتها تغيير نظام الحكم القائم بالقوة، باعتباره في نظرها «حكماً كافراً» أو «ظالماً» و«فاسقاً» على أقل تقدير، لأنه «لا يطبق الشريعة الإسلامية»، بالصيغة التي ترى هذه الجماعات أنها تعبر عن «صحيح الإسلام». ثم جاءت ظروف سياسية، نجمت أساساً عن صراع دولي خلال فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي المنهار والولايات المتحدة الأميركية، جعلت هذه الجماعات تطل برأسها خارج الحدود المصرية. وبعدها تراكمت الأسباب التي جعلت من «الهجرة» مرحلة ضرورية تكتيكياً بالنسبة إليها. ومن هنا انفتح الباب على مصراعيه أمام «تعولم» الإسلاميين الراديكاليين في مصر. والوصول إلى هذه المرحلة لم يتم عبر قفزة سريعة أخذت هؤلاء من التحرك محلياً إلى منازلة أكبر دولة في عالمنا المعاصر، إذ إن الخروج من مصر لم يغير، طيلة ثلاثة عقود تقريباً، من تفكير قادة وأعضاء مختلف «الجماعات الإسلامية الراديكالية»، وهو التفكير الذي انصب بالدرجة الأولى على أن الهدف الرئيسي هو إسقاط نظام الحكم في مصر، بوصفه «العدو القريب»، وبعدها يمكن التفكير في مجابهة «العدو البعيد» وفي المقدمة الولايات المتحدة وإسرائيل. ومن هنا كانت «الهجرة» خارج مصر تستهدف تحقيق «التمكن» الذي لم يكن من المتاح الوصول إليه في مصر نفسها، نظراً ليقظة الأجهزة الأمنية وصرامة السلطة الحاكمة في التعامل مع أي جماعات خارجة على القانون، وبعد ذلك تأتي مرحلة «الفتح»! الذي يعني دخول أعضاء هذه الجماعات إلى مصر فاتحين على غرار الفتح الإسلامي الأول، الذي تم على يد عمرو بن العاص، في محاولة إعادة إنتاج حدث تاريخي قديم بشكل تبسيطي لا يخلو من سذاجة كبيرة. وعلى هذا الأساس يمكننا فهم سر إطلاق تنظيم «الجهاد» على العناصر التي دفع بها إلى مصر في عقد التسعينيات من القرن الماضي لاغتيال بعض رموز السلطة السياسية وضرب السياحة اسم «طلائع الفتح». ولكن العوامل القديمة التي ساهمت في إيجاد مسألة «الهجرة» لم تلبث أن رشَحت على هذا التفكير، وكان من الصعب أن ينسلخ الراديكاليون الإسلاميون المصريون تماماً عن الأطراف التي ساهمت في تشكيل حركتهم إلى الخارج، وتحديداً إلى أفغانستان. ومن ثم ما إن خرجت القوات السوفييتية من ذلك البلد ونشبت حرب أهلية بين فصائل «المجاهدين» حتى وجد هؤلاء المتطرفون، الذين انضووا تحت مسمى عريض هو «الأفغان العرب» أنفسهم موزعين على تكتيكات واستراتيجيات أطراف إقليمية ودولية، بعضها استخدم الهاربين من قيادات الجماعات المتطرفة أوراقاً في يده يناور بها الحكومة المصرية، وفي مقدمة هذه الأطراف تأتي الولايات المتحدة، التي تردد أنها أجرت اتصالات مع قيادات من «الإخوان المسلمين» و«الجماعة الإسلامية»، إبان فترة العنف الأخيرة والعصيبة التي مرت بها مصر، وامتدت من 1989 إلى 1997. وبعض هذه الأطراف عول على هؤلاء في تحقيق أهداف بعيدة المدى تخص إقامة «أممية إسلامية»، مثلما هو الحال بالنسبة للسودان طيلة عقد التسعينيات من القرن الماضي، أيام نفوذ «جبهة الإنقاذ الإسلامية» التي يتزعمها حسن الترابي. وبالإضافة إلى ذلك استفاد بعض الهاربين من بين أفراد «الجماعات الإسلامية» من قوانين اللجوء السياسي في دول أوروبا، وحصل كثيرون على فرص عمل في بلدان عربية وغير عربية، ووجد آخرون في بؤر الصراعات المسلحة، أو ما يطلق عليها «البؤر الملتهبة»، في البوسنة والهرسك، وكوسوفو، والشيشان، وكشمير، وطاجيكستان، والفلبين، مأوى بعد أن أوصدت مصر أبوابها أمامهم، إثر صدور أحكام غيابية عليهم تراوحت بين الإعدام والأشغال الشاقة، باعتبارهم ارتكبوا جرائم. وهذه الأحوال أدت إلى توزع الإسلاميين الراديكاليين المصريين، الذين ينتمون إلى مختلف التنظيمات والجماعات المتطرفة، على دول عديدة تنتمي إلى القارات الست تقريباً، منتفعين من التعاون مع أجهزة استخبارات تارة، ووجود عناصر قادرة على تزوير الأوراق الثبوتية كافة، وتوافر جهات قادرة على التمويل دوماً. وساهمت الطفرة الهائلة في وسائط الاتصالات في ربط هؤلاء جميعاً بمراكز قيادة في الخارج، وعناصر قيادية داخل مصر نفسها، في حين ساهم التقدم الملموس الذي شهدته الأعمال المصرفية في إتاحة فرص كبيرة لتحويل الأموال وغسيلها، من أجل دعم عمليات إرهابية أو دفع مقابل لمتعاونين وأعضاء في هذه التنظيمات، أو الإنفاق على أسرهم سواء في الداخل أو في الخارج. كما وفرت شبكة المعلومات الدولية «الإنترنت» وسيلة إعلامية رخيصة وسهلة أمام هذه التنظيمات لتصدر صحفها وبياناتها المتتالية! وتحت راية إرهاب «القاعدة» امتزجت أهداف المتطرفين المصريين، أو تناغمت، مع أهداف أبعد كانت تدور في رأس قيادات راديكالية من دول عربية وإسلامية أخرى، جعلت من الولايات المتحدة «العدو الأول». ولم يكن تحول من هذا النوع صعباً على الإطلاق، نظراً لأن «الأفغان العرب» عموماً، ليسوا سوى نتاج لصراعات عالمية، أيديولوجية واستراتيجية، أكسبتهم خبرة نسبياً في التعامل مع قضايا تتعدى حدود أقطارهم، وغذت لديهم ميلاً، تنامى باستمرار، إلى إيجاد «أممية إسلامية»! وعبرت أدبيات الراديكاليين الإسلاميين وتصريحات قادتهم، اعتباراً من النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي، بوضوح وجلاء عن هذا التوجه الجديد، ثم جاءت تحركاتهم لتؤكد هذا، إذ إنها اخترقت حدود الدول القومية وساحت في عالم جغرافي تخيلي ينتهي عند نقاط التماس الملتهبة في العالم الإسلامي، ويعيد إنتاج التصورات الأكثر شمولية التي تحدثت عن «إسلاموية» تمتد من غانة إلى فرغانة. ومع ذلك فمن الصعوبة بمكان التسليم تماماً بأن الطابع الأممي للجماعات المتطرفة في مصر صنيع السنوات الأخيرة، أو مرحلة ما بعد إسقاط حكم «الإخوان»، كما يتصور البعض، فهو يشكل جزءاً من خطاب هذه الجماعات منذ زمن، الذي تمحور حول ثلاث قضايا رئيسية، هي «الخلافة» و«الجهاد» و«العلاقة مع الغرب». ولكن على المستوى العملي قاد ترتيب الأولويات لدى هذه الحركات إلى جعل تغيير الوضع الداخلي قسرا هو القاعدة الأساسية للانطلاق إلى بناء أنماط عدة من التعاون مع الحركات المتطرفة في بلدان عربية وإسلامية أخرى لإسقاط بعض الأنظمة، ومنها ما يتم في سوريا والعراق حالياً تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابي.