برزت الحرب الأهلية السورية كواحدة من النزاعات التي جرت تغطيتها بشكل مكثّف من قبل الإعلام، إلا أنها من أقلها وضوحاً وفهماً، فالادعاءات والادعاءات المضادة بارتكاب المجازر والمؤامرات والأذى المتعمّد كثيرة. وتصف وكالات الأنباء العالمية الأوسع انتشاراً، وهي تتابع الأخبار عن بعد، تصف سوريا وكأنها لم تعد مجتمعاً حياً، حيث يسيطر على أخبار الحرب نوع من "التطبيع". إلا أنه في الوقت الذي تستمر فيه الكليشيهات بتبسيط الوضع المعقّد بشكل زائد، وبالتالي إذكاء العنف بشكل غير مباشر، يتوجب على المرء إلقاء نظرة عن كثب على المجتمع المدني الذي بدأ يأخذ دوراً متصاعداً، والذي يعمل داخل البلاد على مبادرات السلام بين السوريين من مختلف الخلفيات السياسية والدينية. وقد بدأت مجموعات المجتمع المدني هذه بتحمل مسؤولية الحفاظ على تماسك المجتمع، والسعي لإيجاد مساحة إنسانية يتقبّل السوريون فيها بعضهم كمواطنين متساوين رغم الحقد المستشري حولهم. يتخذ العديد من السوريين في خضمّ هذه الفوضى، بشكل فردي وكجماعات، موقفاً تجاه السرد الإقصائي، مقاومين للسهولة التي يتم بها تجريد الناس لبعضهم البعض من الإنسانية، رافضين ضغوطات الأقران بالالتصاق بشكل أعمى بطائفة المرء أو عشيرته، ضاحدين خطاب الحقد، ورافضين في نهاية المطاف أن يتم استغلالهم وقوداً للحرب. وتتخذ مبادرات السلام التي بدأت تنشأ أشكالاً ونماذج مختلفة، إذ تقوم جماعات الشباب بنشر قيم ومهارات المواطَنة الفاعلة لتشجيع التماسك الاجتماعي، ويعمل آخرون على استراتيجيات تواصل إبداعية لإظهار كلفة الحرب وزيادة الوعي بالواقع المدمّر لاستمرار أعمال العنف. ففي درعا جنوب سوريا، حيث عطّل القتال الدراسة العادية، قام عدد من الناشطين الشباب بفتح مركز تعلّم لتدريس قيم السلام والتعايش، إلى جانب الحروف الأبجدية. وهم يقومون بجمع الأموال لنشاطاتهم قدر استطاعتهم في أوساط السوريين المهاجرين، ويأتون بالموارد النادرة للقيام بالنشاطات المسرحية وإصدار صحيفة شبابية محلية. وقد كانت جهودهم ناجحة لدرجة أنهم تمكنوا من التوسع إلى القرى المجاورة وفتح مركزين جديدين. وفي مدينة طرطوس في غرب البلاد، قرر الناشطون عبور حواجز التفرقة الطائفية بين القرى المحلية، وأخذوا يعملون مع المراهقين على تطوير قيم المواطَنة الفاعلة، مثل المسؤولية المدنية والعمل المشترك واحترام الاختلاف من خلال برامج التعليم غير الرسمي ومجموعات اللعب. وهم يأتون أحياناً بمدربين من مناطق أخرى لضمان تفاعل الشباب السوري معاً. وفي مدينة حلب في الشمال، قام تحالف من منظمات المجتمع المدني بتوزيع مسؤوليات المعونة الإنسانية بين بعضهم متشاركين في كافة الموارد التي استطاعوا الحصول عليها بشكل متكافئ بين القطاعات المختلفة في المدينة. وقد قاموا في لحظات حرجة بالتفاوض مع السلطات المحلية التي تمثل قوات المتمردين والقوات التابعة للنظام لضمان حدٍ أدنى أساسي من خدمات الماء والكهرباء في شبكات البنية التحتية ووصلها من طرف المدينة إلى الطرف الآخر. وإلى الشرق وفي مدينة "الرقّة"، تقوم مجموعة شبابية بتحدّي "داعش" في العراق وسوريا، حيث تنظّم سرّاً تدريبات رياضية للفتيات كجزء من أجندة التعليم التي يتبعونها. وقد تمكن أعيان محلّيون في بلدة شمال دمشق من إبرام صفقة مع كل من الجيش النظامي والمتمردين لوقف العمليات العدائية. وتعمل مجموعات شبابية في البلدة مع المتمردين لمجابهة التطرف من خلال إدارة نادٍ للسينما وعرض أفلام تشجّع السلام. والقائمة طويلة ومستمرة. يستخدم نشطاء السلام مواردهم الخاصة للمساعدة على تخفيف حدة الأزمة الراهنة، وهم يقومون بعملهم بصمت، أحياناً خوفاً من الاستهداف من قبل العناصر والفرقاء المتحاربين المختلفين. مبادرات المجتمع المدني هذه تدحض بالطبع طروحات الحقد التي تحاول إضفاء الشرعية على العنف. ولكن هذه المبادرات تبقى عمليةً ومحلية ومنفصلةً عن عملية السلام الرسمية. ويتوجب على المجتمع الدولي دعم المجتمع المدني في سوريا لتطوير تحالفات استراتيجية من الأسفل إلى القمة تستطيع التأثير على العملية السياسية التي تُدار في جنيف من الأعلى إلى الأسفل. والسياسيون في الغرب يتعين عليهم اتباع خطى السوريين العاديين الذين يخاطرون بحياتهم كل يوم لتحقيق السلام في مجتمعاتهم المحلية. كما يتوجب على الفرقاء الإقليميين والعالميين أن يجدوا الركيزة الأخلاقية لكسر جمودهم السياسي والشجاعة للتفاوض على نهاية لحروبهم بالوكالة في سوريا. وقتها فقط ربما يمتلك السوريون الفرصة لجسر الهوة التي تفرقهم والتوصّل إلى حلول ناجعة لتحقيق السلام. عمر عبدالعزيز الحلاّج مهندس معماري ومخطط حضري ومستشار تنموي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كومون جراوند" الإخبارية