يجتمع اليوم على صعيد عرفة أكثر من مليوني حاج من كل أنحاء العالم، طائعين خاضعين خاشعين لله سبحانه وتعالى، وقد لفهم البياض وأقبلوا من كل فج عميق ليعلنوا ولاءهم لله سبحانه وتعالى في زمن وموقع وتوقيت واحد. أتوا إلى ربهم طائعين يدعونه ويرجونه وهم يغالبون جريان الدمع الذي اغتسلت به وجوههم، كي يغفر لهم ويظلهم تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله. أتوا الله شعثاً غبراً ضاحين من كل فج عميق، ينادونه بصوت واحد: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك». فالحج، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، عرفة، وخير الدعاء هو دعاء يوم عرفة. ومارئي الشيطان، كما حدثنا عنه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام. وما من يوم يعتق الله فيه عبداً من النار أكثر من يوم عرفة. وفي هذا اليوم العظيم الذي يعيش فيه المسلمون في دائرة النور الرباني، وقف النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً أمته في حجة الوداع، بعد أن اكتملت دعوته وأبلغ رسالته وبنا مجتمعاً جديداً يقوم على أساس إثبات الألوهية لله وحده، حيث قال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا». وقال أيضاً: «إنه لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم وحجوا بيت ربكم وأطيعوا ؤلات أمركم تدخلوا جنة ربكم». إن الحج في حقيقته وجوهره، كما يراه العلماء، هو سير نحو الله تعالى.. وهو موسم للتأمل العميق في ذواتنا. والحجاج هم وفد الله، ومن يشاهدهم محتشدين على صعيد عرفة، في خشوع وخضوع وروحانية فيّاضة، ويتأمل صورة هذا المشهد بتمعّن، سيجد أنه يقترب في صورته من مشهد يوم القيامة. وقد فسّر ذلك أحد العلماء قائلا: إن عامة البشر سيمثلون أمام الله سبحانه وتعالى بعد الموت، لكن المؤمن يمثل بين يدي ربه قبل أن يأتيه الموت. فحضور الآخرين أمام الله حضور المجبور الذي لا حيلة له، أما حضور المؤمن الحاج فباختياره ورغبته. إن الحج هو أعظم اجتماع إنساني على وجه الأرض، وبيتاً واسعاً للنفائس لما تحمله مناسكه من دلائل ورموز ومعاني لا حصر لها. فالطواف بالبيت، واستلام الحجر الأسود، واستلام الركن اليماني، وشرب ماء زمزم، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف في أرض عرفات، والمبيت بمزدلفة، والاجتماع بمنى، ورمي الجمرات.. كل هذه الأعمال التي يمارسها الحاج لها من المقاصد والمعاني والدلالات ما يدخل الحاج إلى ذروة الروحانية والخروج منها كيوم ولدته أمه. والحج مؤتمر سنوي عظيم يجمع الأمة الإسلامية على صعيد واحد، تحت راية واحدة، ويدفعها إلى تجديد بناء نفسها وإعادة النظر في مواقف وممارسات كثيرة. وهو، كما يقول محمد إقبال: انبعاث جديد، وإعادة بناء، ورحلة روحية تهيئ الفرد للآخرة، وهو صحوة شاملة تحمل المجتمع كله على إعادة صياغة نفسه.