إن إدانة الذات وتعذيبها إنما ينشأ من عدم الإحساس بها أو بعقدة النقص في مواجهة غيرها. وإن من يعتبر حضارتنا تسير نحو الفناء والانقراض إنما يعبر عن مجرد تشاؤم لا داعي له، وبذلك يكون أكبر داعية للغرب، ومروج لأسطورة الصدمة الحضارية مشيعاً اليأس في قلوب الأمة، وكأن حركات التحرر الوطني لم تحدث في جيلنا، وكأن محاولات النهضة والتجديد منذ أكثر من قرن من الزمن، على رغم نسبيتها، لم تتم، ولم تحدث أثراً فينا! بل إن المستشرقين أنفسهم الذين روجوا لمثل هذه الأسطورة قد تخلوا عنها. وإن أعتى النظريات العنصرية التي جعلت الجنس الآري وحده هو الصانع للتقدم في مقابل الجنس السامي «المتخلف» بطبعه قد انهارت أمام شواهد التاريخ. ولكن يبدوا أن «العلوم الحضارية» في الغرب قد ورثت هذه النظرية القديمة ووجدت لها بعض المروجين بيننا الذين يرون حضارة الغرب وكأنها هي الحضارة العالمية الوحيدة، ويسعون إلى سيادتها وانتشارها والقضاء على كل الحضارات المحلية الأخرى للشعوب غير الأوروبية. نحن لسنا غرباء عن حضارتنا، ولسنا مستشرقين، بل هي جزء منا، ونحن جزء منها، نحن مسؤولون عنها، ولسنا متفرجين عليها. والتخلف والتقدم عملية تاريخية، حية، حركية وليست جواهر ثابتة وصفات مطلقة لشعب دون آخر. بل إن هذه الحضارة التي يرى البعض أنها سائرة إلى الانقراض هي أساس حضارات العالم. فقد كانت الحضارة العربية الإسلامية وريثة لحضارات ما بين النهرين في العراق ولحضارات الفينيقيين في الشام وحضارة مصر القديمة على ضفاف النيل. وقد قامت الحضارة الإسلامية على مدى سبعة قرون، رائدة لحضارات العالم، وتمثلت حضارات الهند وفارس واليونان والروم، وأبدعت، وأنتجت، وترجم عنها الغرب في بداية نهضته. ولم تخرج نظريات في الغرب تنعي شعوبه وجعل حضارة المسلمين في مرتبة الكمال بل ظهر نقاد لحضارة المسلمين ولشرحهم على أرسطو. كما ظهر فلاسفة وعلماء ومفكرون أحرار يستأنفون الفكر والعلم الإسلاميين. وليس علينا نحن أن نضفي صفات الكمال على الآخرين، وأن نتنكر لقدرات الذات. ولا يأخذ هذا الموقف إلا من انسلخ عن حضارته وباع نفسه لحضارات الغير بثمن بخس إما لولاء طائفي للغير، أو لتعصب ديني من الأقلية لتراث الأغلبية. هذا وتبعث المكسيك حضارتها القديمة، وتقيم أميركا اللاتينية علومها الإنسانية الوطنية في مقابل علوم الغرب، بل ظهرت نظريات حضارات خليج المكسيك كأولى حضارات العالم. فهناك ظهرت الأهرامات، وهناك تعانق المصريون القدماء. كما قامت الصين بنهضتها الحالية حتى في العلوم الطبيعية في علوم الطب والكيمياء وعلوم الذرة ابتداء من التراث الصيني الخالص. ألم يأن الأوان لإعادة النظر في ولائنا القومي، هل هو للغير أم للذات؟ كما لا يعني المفكر بالضرورة ما حدث في الغرب من اعتبار المفكر صاحب نظرية أو مذهب. فقد أسقط الوعي الأوروبي في عصر النهضة كل الغطاء النظري السابق الذي ورثه من العصر الوسيط وتراث الكنيسة، فأصبح الواقع عارياً من أي غطاء نظري بديل، وهنا جاء دور المفكر والعالم في إيجاد غطاء نظري آخر معتمداً على جهده الخاص، ووسائل المعرفة الإنسانية الحسية والعقلية والوجدانية بسبب رفضه كل الوسائل المسبقة للمعرفة. فظهرت النظريات والمذاهب الغربية مثل الحسية والعقلية، والمثالية والواقعية، والكلاسيكية والرومانسية.. إلخ، كل منها رد فعل على الآخر، يبتر جزءاً من الواقع، فيجيء مذهب آخر ليبرز الجزء الآخر، وهكذا حكمت المذاهب الغربية قوانين الأفعال وردود الأفعال. ثم نقلنا نحن ذلك، وتصورناها علوماً ونظريات، ومذاهب مستقلة عن الزمان والمكان خارج ظروف نشأتها ومكونات بيئتها، دعاية لأنفسنا وتشدقاً بالجديد، وحرصاً على الكسب، حتى أصبحنا وكلاء حضاريين للغرب ومروجين لمذاهبه، فنشرنا كماً من المذاهب، والواقع لدينا ما زال مغطى بغطائه النظري التقليدي الموروث، فوضعنا قشوراً فوق الأعماق، لم تؤثر، بل تتساقط إذا ما تحركت الجذور. فالمفكر لدينا له معنى آخر تماماً، ينبثق من المرحلة التاريخية التي تمر بها مجتمعاتنا. فنحن ما زلنا، وقد بدأنا ذلك منذ قرون، في عصر الانبعاث نحاول أن نتجاوزه إلى عصر النهضة. ومفكر عصر النهضة هو الذي يتصدى للموروث القديم محاولاً نقده وإعادة بنائه، والتحرر من معوقاته، وأخذ نقاط قوته، واكتشاف الطبيعة مصدراً للعلم، والحواس والعقل إحدى وسائله، واعتبار الحاضر أولى من الماضي. ويقوم مفكر عصر النهضة بهذا التحول الجذري في محاور الحضارة ومستوياتها ولغتها ومناهجها حتى يمكن بعد ذلك أن يتحرر العقل ويتجه نحو المعرفة العملية. ولكن لسوء الحظ جعلنا أنفسنا وكلاء حضاريين للغرب، ننقل ما ينتج، ونترجم، ونؤلف مترجمين، منسقين بين المعارف، ولم نقم بمهمة جيلنا أي إتمام تجديد التراث على نحو جذري ثم نقله إلى نهضة شاملة. وفرحنا بألقاب مفكرينا: وضعي، بنيوي، مثالي، واقعي، علمي، وجودي، تحليلي، رومانسي، كلاسيكي، تكعيبي، سريالي، وأعطيناهم الجوائز في عيد العلم حتى أصبح بعضهم فقاعات سرعان ما تنفجر، لأنها مجتثة الجذور، أمام أي مد أصيل من تراث الأمة وتاريخها. وبعد عصر الفتوحات بدأت الترجمة بالتعرف على حضارات الآخرين دونما تخوف أو تهيب أو اتهام بأنها أفكار مستوردة. وتمت الترجمة عدة مرات إما من خلال لغات متوسطة كالسريانية أو مباشرة من اليونانية إلى العربية. وتأسس «ديوان الحكمة» لهذا الغرض. ورعت الدولة الترجمة والمترجمين. ولكن لم تستمر الترجمة أكثر من قرن من الزمن، القرن الثاني، حتى ظهرت بعده بوادر التأليف، وخرج المفكرون يتمثلون القديم ويبدعون الجديد. فخرج لدينا الكندي والفارابي وابن سينا بعد ثابت بن قرة، وحنين بن إسحاق، وإسحاق بن حنين، ويحيى بن عدي كمترجمين، قاموا بالشرح ثم بالتأليف. استطاع القدماء الانفتاح على الحضارات السابقة بلا تحيز مسبق وتمثلها، واستيعاب ما يتفق مع الذات والرد على ما يخالفها. أما نحن الآن، فلا نحن وعينا بما فعله القدماء، ولا درسنا عمليات التمثيل والاستيعاب، وكيفية التعبير عن مضمون الذات بلغة الغير، وأصالة الأنا بمصطلحات ومفاهيم الآخر دونما وقوع في الاغتراب، ولا نحن استأنفنا العملية نفسها مع الحضارات الغازية المجاورة الحالية وعلى رأسها الحضارة الأوروبية. فانفصلنا عن القدماء، وجهلنا التراث، ونقلناه كماً دون فهمه كيفاً، وترجمنا من الغرب دون ما تمثل أو وعي أو استيعاب، فتراكم الكم الغربي عن واقعنا. فحدثت الازدواجية الثقافية بين أنصار القديم، أهل الماضي، وأنصار الجديد، العلمانيين الغربيين، ووقع الفصام في شخصيتنا القومية بين الأزهر والجامعة، بين التعليم الديني والتعليم الدنيوي. فتراكم فوق الواقع علم القدماء، والعلم الغربي، وأصبح عقل الأمة مشحوناً من هذين المصدرين دون ما وحدة، ومطحوناً بين دفتي الرحى دون ما خلاص. فوقع الاغتراب في حياتنا، الاغتراب عن القدماء، والاغتراب عن المحدثين. وأصبح البعض يمثل أهل السلف، والبعض الآخر يمثل الخلف. البعض يرى نفسه في فكر الفقهاء أو الصوفية أو المتكلمين والبعض الآخر يرى مستقبله مع الماركسيين أو الوجوديين أو العقلانيين أو الاشتراكيين أو الرأسماليين، والحاضر نفسه محاصر بين هؤلاء وأولئك لا يجد له مخرجاً، وكلاهما نقلة بصرف النظر عن مكان النقل ومصدره. وطالت فترة التعليم عن الغرب أكثر من اللازم، فما زلنا نترجم أكثر من قرنين من الزمن، وما زلنا نقيم مشاريع الترجمة، ونرى نهضتنا في الترجمة دون ما استيعاب أو إدراك لوظيفة التعلم وعدم تمييز فصل القدماء بين علوم الوسائل وعلوم الغايات. ولم يظهر فينا الإبداع إلا في نقاط متفرقة وعند أفراد معدودين انعزلوا عن مجتمعهم حرصاً على وعيهم الذاتي المستقل.