تمر اليونان، مثلها مثل العديد من دول جنوب أوروبا الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بأزمة اقتصادية شديدة أثرت على جميع اليونانيين تقريباً دون استثناء بما في ذلك الفئات الاجتماعية الوسطى والعليا، دع عنك جانباً الفئات الفقيرة التي مازالت تتحمل الجزء الأكبر من المشكلة. لكن قراءة الوضع اليوناني مباشرة، مع افتراض بقاء تأثيرات الاتحاد الأوروبي واليورو ثابتة، تفصح عن أن المشكلة القائمة حالياً هي مخرج يوناني صرف تعود إلى نظام اليونان الديمقراطي الخاص بها وحدها، بمعنى وجود نمط ديمقراطي فيه الحزبان القويان كلاهما، الموجود في السلطة والموجود على دكة المعارضة، يحظيان بشعبية واسعة. وتوجد آليتان جعلتا هذا النظام ناجحاً لثلاثة عقود تقريباً، الأولى هي وجود دولة تقوم على توزيع الريع السياسي بأكبر قدر ممكن على كافة أفراد المجتمع، والثانية، وجود نظام حزبي يقوم بتأمين الإيصال الواسع لفوائد الدولة عبر تداول الحزبين للسلطة. ومع وجود حزبين شعبيين قويين يتناوبان السلطة بشكل اعتيادي، ويسيطران على دولة سخية وحريصة على توزيع الريع السياسي، فإن الناخبين تعودوا على أن الدولة معطاء، وبأن من الأفضل التعاون معها عبر الاتصالات الحزبية عوضاً عن المغامرة في السوق عبر التنافس. كما تعود اليونانيون أيضاً على التفاعل الانتخابي بأنه إذا ما خسروا أحد قطبي الاقتراع فإن من المحتمل عودته إلى السلطة في الجولة القادمة. وفي المقابل تعود السياسيون اليونانيون على أن ناخبيهم أو العامة اليونانية لا تعير اهتماماً لمحاسبتهم على أخطائهم وليس لديها رغبة في تعديل المسارات، وكل ما كان يحدث هو أن المجتمع يعاقب سياسييه عبر صناديق الاقتراع بعدم انتخابهم في المرات القادمة إذا هم ارتكبوا الأخطاء. وبناء على هذا الفهم الواسع لطبيعة الحياة السياسية، عملت الديمقراطية الشعبية اليونانية بشكل جيد نسبياً إلى أن انفجرت الأزمة القائمة حالياً عام 2010، كاشفة بشكل مركز عن نضوب موارد الدولة اليونانية، ومن هنا، فإن الأمر أخذ يسير في اتجاه بأن المسألة مسألة وقت إلى أن أكدت انتخابات عام 2012 أن النظام الديمقراطي اليوناني الشعبي قد انهار، وربما إلى غير رجعة. وكدارس للنظم السياسية، يمكنني القول بأن ما كان قائماً في اليونان هو أمر يختلف عن الديمقراطية الليبرالية الغربية الحديثة، فالديمقراطية الليبرالية تقوم على تعارض بين الحكام والمحكومين على أسس مؤسسية واتفاقات يقرها الطرفان، وهذه جميعها تفترض أن خير الفرد يعتمد على دعم الخير العام. ومع وجود فهم كهذا تبقى الدولة غير منحازة لأحد الطرفين، ويتم النظر إليها على أن هدفها هو توفير الخير العام (وذلك في تضاد مع الريع السياسي). وإلى الحد الذي يمكن فيه للدول العمل وفقاً لتلك القواعد فإنها تكسب شرعيتها. وإلى الحد الذي تعمل فيه المجتمعات وتطيع نفس تلك القواعد، فإن السياسة تتحول إلى لعبة كلية إيجابية. ولنواجه ذلك بالتناقض الاجتماعي والسياسي الذي تطور في الديمقراطية الشعبية اليونانية، فوفقاً لمنطق ذلك النظام لم تكن الدولة داعماً محايداً لتوفير الخير العام، بل عوضاً عن ذلك هي مورد ينهل منه أفراد تواقون لتقوية مصالحهم الخاصة والشخصية. ويبقى أنه بسبب تناوب السلطة بين الأحزاب الرئيسية، كان النظام بعيداً عن اللعبة السياسية الصفرية. والواقع أن جميع أفراد المجتمع استفادوا من التناوب، الأمر الذي يشير إلى توضيح يعتد به إلى صلاحية ذلك النظام من وجهة نظر الفرد، استناداً إلى نظرية الإنابة الرئيسية في الديمقراطية القائمة على صوت الفرد الواحد. لكن اليونان كدولة مؤسسات خسرت في نهاية المطاف لأن الديمقراطية الليبرالية الغربية الحديثة لاتنتعش في ظل أنانية الفرد.