يدفع المثقف الحر في كل مكان ثمناً باهظاً لمواقفه الناصعة. ونسمع عن الكثير من الشرفاء سياسيين ومفكرين وأدباء رمت بهم أنظمتهم في غياهب السجون، أو تمَّ إقصاؤهم عمداً عن الحياة العامة كي لا يصل صدى أصواتهم إلى عمق مجتمعاتهم. عدد من الأسماء التي حصلت على جائزة نوبل للسلام لم يشفع لها حصولها على هذه الجائزة الدولية، وظلّت أوطانها تتجاهلها وترفض وجودها رغم الاحتفاء بها والتهليل بإنجازاتها الإنسانيّة في الخارج! متمنية حكوماتها أن تخرس أصواتها للأبد حتّى ترتاح من مشاغباتها ولإحساسها بأنها تقف غصّة في حلقها، خاصة إذا كانت بعض هذه الأسماء تنتمي لبلدان لا تؤمن بشيء اسمه ديمقراطيّة ولا بحقوق مواطنة! في الاجتماع السنوي الرابع عشر للحاصلين على جائزة نوبل للسلام الذي عُقد بمدينة كيب تاون، غاب عدد من الحائزين على الجائزة وكان من أهمهم الدالاي لاما الذي نالها عام 1989م، حيث مارست الصين ضغوطاً سياسيّة كي لا تتم استضافة الزعيم الروحي لمقاطعة التبت الذي تتهمه الصين بأنه يتطلّع للحصول على المزيد من الامتيازات، وأنه يسعى لاستقلال المقاطعة عن الوطن الأم. الممارسات القمعيّة التي تُمارسها الصين ضد مطالب شعب التبت ورفض الاعتراف بحقّه في تقرير مصيره، جعلتني أعبّر عن إعجابي بحكومة بريطانيا التي أعطت للشعب الاسكتلندي كامل الحرية في خيار الاستقلال عن بريطانيا أو البقاء تحت لوائها. لم تُحاول بريطانيا البطش بمعارضي الوحدة بل تركت الاستفتاء يأخذ مجراه الطبيعي حتّى صبَّ بالنهاية في مصلحة بريطانيا. ولم يلجأ المطالبون بالاستقلال إلى العنف عند ظهور نتائج الاستفتاء بل أقرّوا بهزيمتهم ومضوا في سبيلهم. وهذا يعود إلى أن الديمقراطيّة الحقيقيّة لا يُمكن أن نصنعها في معامل يدويّة ونصيح بعدها ببلاهة بأنها أصبحت تعيش بيننا! الديمقراطيّة هي أسلوب حياة يتمّ ترسيخه على مدى عقود طويلة. احترام الحريات سمّة من سمات التحضّر الإنساني التي تفتقدها دول العالم الثالث بما فيها بلداننا العربيّة! وكم أتمنى أن نصل إلى اليوم الذي تُشرّع فيه النوافذ وتُفتح الأبواب على مصاريعها لنسمع بتأنٍ أصوات المعارضين بدلاً من خرس ألسنتهم! والتخلّي عن الاعتقاد السائد بأن البطش هو أفضل وسيلة لتجنّب حدوث فوضى! بعد قيام الثورات العربية هناك من أخذ يتفاخر بأن الديمقراطيّة أصبحت لها أنياب وأظفار، وأن من الصعب حشرها في قارورة ورميها بقاع البحر! وهذا في رأيي قمّة التخلّف لأن هناك فرقا كبيرا بين إشاعة الفوضى باسم حريّة الرأي وبين مبادئ الديمقراطية الحقيقيّة التي لا تسعى لتدمير كل شيء في طريقها! خوف حكومات دول العالم الثالث من مفكريها وأصوات العقلاء من مُعارضي سياساتها ليس له داعٍ! لأن أفكارهم المستنيرة هي التي تبني العقول، ومن دون العقول تنجرف الأوطان إلى درك مظلم ليس له قرار! لكن للأسف ما زالت مصرّة على مُطاردة المثقفين الشرفاء كالجرذان دون أن تُفرّق بين من يسعى لبناء وطن يسع الجميع، وبين أفّاق يدّعي حرصه على وطنه وجلّ همّه الحصول على مكاسب شخصيّة! تجاهل المثقفين المستنيرين على تباين تخصصاتهم وتوجهاتهم، لم يكن يوماً الحل الأمثل لتحقيق الاستقرار وحفظ الأوطان من التشرذم والضياع! وبناء مجتمعات متماسكة تشعُّ مدنيّة لن تتحقق إلا إذا تمَّت الاستعانة بالعقول النيرة، والقيام بثورة فكريّة على كل الموروثات العقيمة! وجميعنا على دراية بالمراحل التي مرّت بها أوروبا تحديداً حتّى رسّخت قواعد الديمقراطيّة على أرضها، وما آلت إليه اليوم بعد أن كانت غارقة في مستنقع الظلام! الديمقراطية التي تأتي على نار هادئة لا يُمكن أن يحترق قعر إنائها!