من بعد طول انتظار وترقب ومماحكات وخوف من انفجار القتال مجدداً في أفغانستان على خلفية الصراع على السلطة ما بين الفائزين الرئيسيين في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الافغانية التي أجريت في يونيو من العام الجاري، حدث ما لم يتوقعه أحد في هذا البلد المنكوب بالحروب والصراعات القبلية والطائفية والعرقية. إذ أسفرت الضغوط الأميركية عن انتهاء الإشكالات التي خلفتها تلك الانتخابات (اتهامات بالتزوير والمخالفات وإبطال الأصوات)، وحصول توافق ما بين الفائز الأول الخبير المالي والمسؤول السابق في البنك الدولي الدكتور أشرف غني الشهير عند أتباعه بـ «العقل العالمي المفكر» (مغز متفكر جهان) وهو ينتمي إلى قبيلة «أحمد زاي» كبرى قبائل البشتون الذين يشكلون أغلبية سكان أفغانستان (48%) ويتواجدون في شرقها وجنوبها، والفائز الثاني طبيب العيون الدكتور عبدالله عبدالله الذي شغل منصب وزير الخارجية في اول حكومة افغانية بعد سقوط «طالبان»، وكان يوماً ما الساعد الأيمن لمن كان يــُطلق عليه «أسد بانشير» أو«غيفارا أفغانستان أي القائد الطاجيكي أحمد شاه مسعود (أغتيل عشية الضربة الجوية الأميركية ضد أفغانستان في عام 2001). وعلى العكس من أشرف غني ينتمي عبدالله عبدالله إلى الطاجيك الذين يشكلون أغلبية سكان الشمال الافغاني ويتحدثون اللغة الدارية القريبة جداً من الفارسية. وبموجب التوافق المشار إليه يتولى «غني» رئاسة أفغانستان، فيما يتولى عبدالله رئاسة الحكومة، وهو منصب يجب استحداثه عبر تغيير الدستور من قبل «اللويا جيركا»، وهو بمثابة مجلس قبلي عرفي، حيث إن الدستور الحالي يضع جميع المسؤوليات التنفيذية في يد رئيس الجمهورية على نحو ما ساد طيلة فترتي الرئيس المنتهية ولايته حامد كرزاي. ويدخل أشرف غني قصر الرئاسة في كابول، محققا حلما لطالما سعى إليه منذ حصوله على درجة البكالوريوس في الاقتصاد من الجامعة الأميركية في بيروت في عام 1973 وهو العام الذي انقلب فيه محمد داوود خان على ابن عمه الملك محمد ظاهر شاه وأعلنت فيه الجمهورية، وبدأت منه مسلسل الانهيارات المتتالية في بلد كان حتى أوائل سبعينيات القرن الماضي آمنا ومحايدا وينعم بالاستقرار والتنمية المتدرجة. والغريب أنه لأول مرة في تاريخه سيستقبل قصر الرئاسة الأفغاني سيدة أولى من أصول أجنبية، بل ومسيحية ونعني بها اللبنانية «رولا سعادة»، التي تزوجها غني في لبنان يوم كان يدرس هناك بموجب منحة حصل عليها في نهاية الستينيات بــُعيد إتمامه لتعليمه الثانوي في «ثانوية حبيبة» بكابول، والتي كانت تخرج معظم أبناء الأثرياء والطبقة الارستقراطية. والمتمعن في سيرة غني سيجد أشياء ملفتة للنظر. فهو لم تتلوث يديه بالدماء، ولم يشارك كغيره في العمليات الجهادية التي فرقت ودمرت وأسالت الدماء وقضت على الأخضر واليابس لأنه في تلك السنوات الكالحة من التاريخ الأفغاني كان منشغلا إما بالتحصيل العلمي أو العمل الأكاديمي ذلك أنه بعد إتمام تعليمه في لبنان عاد إلى بلاده في عام 1977 والتحق رأسا بجامعة كابول كأستاذ للعلوم الانسانية، ومنها انتقل للتدريس في جامعة «أرهوس» الدانماركية الراقية. وفي هذه الأثناء حصل على فرصة لإتمام تعليمه العالي في جامعة كولومبيا الأميركية. فارتحل بمعية زوجته إلى هناك حيث حصل على درجة الماجستير في العلوم الانسانية، وأتبعها بدرجة الدكتوراه في الانثروبولوجيا الثقافية من الجامعة نفسها، وخلال هذه الفترة أنجبت له زوجته ابنه طارق وابنته مريم اللذين يعيشان في الولايات المتحدة، وقبلتاه جامعتا كاليفورنيا وجون هوبكنز عضوا في هيئتهما التدريسية، الأمر الذي مهد له الطريق للعمل كخبير في البنك الدولي مسؤولاً عن الارتقاء بالمجتمعات النامية. وحينما سقط نظام «طالبان» الأهوج، وعقد اجتماع دولي في ألمانيا في عام 2002 للنظر في بناء أفغانستان جديدة كان «غني» من المشاركين في هذا الاجتماع الذي أسفر عن قيام حكومة أفغانية انتقالية بقيادة البشتوني حامد كرزاي الذي حرص أن يستفيد من خبرات شخصية بشتونية معروفة على الصعيد الدولي مثل «أشرف غني»، فمنحه حقيبة المالية. غير أن عين «غني» كانت مصوبة نحو المنصب الرئاسي الأعلى كونه أقدر من غيره على تشخيص مشاكل البلاد ومعاناة سكانها بفضل علمه وعلاقاته الواسعة. وهكذا انتظر الرجل حتى حان موعد الانتخابات الرئاسية في عام 2009 ليترشح وسط عدد كبير من المرشحين كان من ضمنهم حامد كرزاي. لكن النتائج جاءت خلاف ما كان يتوقع، إذ حل رابعا بعد كرزاي وعبدالله عبدالله ورمضان بشر دوست، وهو ما جعله يعيد خطوط الاتصال مع كرزاي الذي عينه رئيسا لجامعة كابول. وخلال العامين اللذين شغل فيهما «غني» منصب رئاسة هذه الجامعة التي كانت يوما ما راقية ومصنعا للأجيال المتعلمة قاسى مشاكل كثيرة وواجه مظاهرات طلابية عاصفة طالبته بالرحيل، متهمة إياه بالتعصب لجذوره البشتونية. وكان من أهم المآخذ التي رفعها ضده الطلبة الطاجيك تحديدا هو استخدامه لمفردة «بوهنتون» البشتونية التي تعني الجامعة كبديل لمفردة «دانشغاه» التي تعني الشيء نفسه في اللغة الدارية. جملة القول إن «غني»، وقد حقق حلمه بالوصول إلى سدة الرئاسة، يواجه تحديات كبيرة لئن كان أشدها إعادة لحمة بلاد أنهكتها الحروب والاختلافات والعصبيات على مدى عقود، والتصدي لاحتمالات ومخاطر عودة حركة «طالبان» المقبورة إلى الواجهة بعد انسحاب القوى الأميركية والأطلسية من الأراضي الأفغانية نهاية العام الجاري، فإن أخفها سيل الاتهامات التي لا تتوقف ضده من قبل لوردات الحرب السابقين والجماعات الدينية المتشددة. فهذا يشكك في اسلامه ومدى التزامه الديني على خلفية زواجه من مسيحية، وآخر يتهمه بالعمالة للكفار الأميركان على خلفية عمله واقامته الطويلة في الولايات المتحدة، وثالث لا يرى فيه الا شخصية متعصبة لقوميته البشتونية ومعادية لسواها من الاعراق والقوميات التي تشكل الموزاييك الأفغاني المعقد.