يبدو أن الأوضاع السياسية والأمنية في اليمن لن تستقر على المدى القريب، وستبقى الاضطرابات في هذا البلد تؤرق أهله وجيرانه إلى حين، وذلك لأسباب بعضها آنية، تتصل بغياب الاستقرار السياسي منذ سقوط الرئيس السابق «صالح»، مروراً بتغول الحوثيين وسيطرتهم أخيراً على العاصمة صنعاء، وطرحهم شروطاً تهدف للسيطرة على القرار السياسي، والعمل لصالح أجندة خارجية معروفة. وهناك أسباب أخرى لما تعيشه اليمن من قلاقل شبه دائمة، يمكن وصفها بالأسباب البنيوية الكامنة في تركيبة المجتمع اليمني ذاته، وتتعلق بغياب التنمية وانفصالها عن المسار السياسي والمعالجات الدولية والإقليمية المقترحة، التي تنظر للأحوال في اليمن باعتبارها مجرد أزمة انتقال سياسي، تتطلب فقط مساعدة اليمنيين على خلق شرعية سياسية جديدة. قد تبدو خطوة بناء شرعية جديدة للحكم مهمة حالياً، لكنها خطوة ناقصة لأنها لا تلتفت لجذر المشكلة، ولا تضمن لأي سلطة شرعية تحكم مستقبلا القدرةَ على تفكيك الإشكاليات التي يعانيها المجتمع. عند التحاق الشارع اليمني مطلع عام 2011 بموجة الفوضى التي هدفت لإسقاط الأنظمة من دون التفكير في عواقب خلخلة الدول وتدمير هيبتها، تنبّه قليل من المحللين إلى أن البنية الاجتماعية التقليدية في اليمن لن تفلح بتمردها وخروجها على النظام في إنتاج نظام أفضل منه أو أقل سوءاً. وذلك ما حدث بالفعل، حيث أدى التحول العشوائي إلى مغادرة «صالح» قمة السلطة، بينما احتل تنظيم «الإخوان» وبقية القوى الهامشية الأخرى مفاصل الحكم، ثم جاء الحوثيون أخيراً وأسقطوا عبر عمل مسلح هيمنة تنظيم «الإخوان»، وعملوا على إنهاء نفوذ الجماعة في الجيش، وضرب معاقلها في البيئة القبلية. لكن النتيجة النهائية التي يمكن استخلاصها من وراء التمدد الحوثي الذي عمل على تقليم مخالب «الإخوان»، هي أن استبدال النفوذ الإخواني بالنفوذ الحوثي لا ينبئ بأي تغيير إيجابي يمكن التعويل عليه أو الثقة به، فعملية إحلال الحوثيين ومنحهم مساحة كبيرة داخل مؤسسات الدولة لا تعني إلا استبدال تيار راديكالي بآخر لا يقل عن السابق تهوراً وطمعاً، مما يقوض الاستقرار الذي يحلم به اليمنيون، ويرى فيه المجتمع الإقليمي والدولي مصلحة حيوية لمنع تفشي الإرهاب والتطرف. غير بعيد عن السياق، ولتفسير ما يراه الكثيرون لغزاً محيراً، ونعني به حالة التمدد المفاجئة التي أوصلت الحوثيين إلى السيطرة على العاصمة اليمنية، لا يمكن تجاهل حقائق من شأنها أن تفسر ما حدث ويحدث في اليمن، ومن شأنها كذلك أن تؤكد أن غياب التنمية في هذا البلد وعدم توازيها مع المعالجات السياسية المدعومة إقليمياً ودولياً، تعد من الأخطاء التي تبقي اليمن في حالة شبه دائمة من انعدام الاستقرار. ومن تلك الحقائق أن الحوثيين وجحافلهم لم يهبطوا بمظلات من السماء، بل يمثلون قطاعاً كبيراً من المجتمع الريفي وأبناء قبائل شمال اليمن، وهي مناطق يغلب عليها الركود وانعدام التنمية، لذلك تشكل بيئة خصبة لرفد الحوثيين بالعناصر الشابة والمقاتلة من مختلف الأعمار. ووفقاً للموقع الإلكتروني للمجلس الوطني للسكان في الجمهورية اليمنية فإن 71% من سكان اليمن يقطنون الأرياف، بينما تحتضن المدن النسبة المتبقية (29%) من إجمالي السكان، وعلى الرغم من ذلك تعاني الحياة الحضرية اليمنية من حالة ترييف تجعلها أشبه ما تكون بقرى كبيرة، بسبب الهجرة الداخلية من الأرياف ومناطق القبائل إلى المدن، نتيجة لانعدام تنمية الريف، وعدم توافر الخدمات والبنى التحتية ومؤسسات التعليم وكل ما يكفل الإبقاء على السكان في مناطقهم وتطوير حياتهم ووسائل معيشتهم. لا تشكل مناطق الريف الشاسعة في اليمن مخزناً بشرياً لرفد جماعة الحوثيين بالأنصار والمقاتلين فقط، بل إن الفقر وسوء الأوضاع الاقتصادية في تلك المناطق يرفد كذلك أعتى التنظيمات الإرهابية بالعناصر المتطرفة، إذ ما الذي يمكن أن تنتظره من شاب قروي لا يجد في منطقته كلية أو معهداً تقنياً أو مؤسسات تعليمية تدمجه في المجتمع وتعدّه لسوق العمل؟ البعض ممن يتابعون الشأن اليمني هذه الأيام يركزون في وسائل التواصل الاجتماعي على إبراز صور لمقاتلين حوثيين يحملون أسلحة الكلاشينكوف وهم لا يزالون في سن الطفولة، وكأن المسألة مجرد انتقاد لتجنيد الأطفال واستغلالهم في الصراعات، بينما الأمر أخطر بكثير ويسري على أتباع هذه الجماعة، وغيرها من فئة الشباب الذين يفترض أن يكونوا منشغلين بكلياتهم الجامعية أو على الأقل بمعاهدهم التقنية التي تستوعب في حال وجودها أعداداً من أولئك الشباب الذين تنسد آفاق المستقبل أمامهم فيلتحقون بالجماعات التي يتحول العنف عندها إلى وظيفة. وهكذا فإن الأوضاع في اليمن معقدة أكثر مما نتصور، ويلعب الفقر وسوء الأوضاع الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي أدواراً في استمرار الركود، وفي تحويل المجتمع اليمني إلى بؤرة ساخنة، تحفل في داخلها بكل ما يجعلها منطقة لتطفل القوى المحلية التي تستغل الاضطرابات لتنمو وتفتح مجالاً للتدخلات الخارجية في بلد تنتشر فيه الأسلحة ولا تنقصه أزمات فوق أزماته. أما قضية انتشار السلاح في اليمن وخطورتها، فتحتاج إلى وقفة تأمل لا مجال لها في هذا التناول، ومن المهم أن نختم بالقول إن محاولة فهم الإشكاليات التي يعانيها اليمن تتطلب وضع مسألة غياب التنمية في صدارة الاهتمام، لكن المعني الأول بهذا الملف هي المؤسسة الرسمية اليمنية، وأولى الخطوات المطلوبة في هذا الجانب، والتي لا تزال مؤجلة، هي أن تضع الحكومة اليمنية أجندة واضحة لاستيعاب أموال المانحين التي تم رصدها كأرقام، لكنها بحاجة إلى خطة استيعاب تراعي الأولويات والمردود المستقبلي المفترض للمشروعات والخطط. حتى الآن لا تزال هذه الإشكالية من دون حل، على الرغم من تفاعل دول مجلس التعاون الخليجي وتعاونها، ومعها المجتمع الدولي، في المؤتمرات كافة التي عقدت خصيصاً لإنقاذ اليمن وانتشاله من الظروف التي تعيق استقراره. وبإمكان اليمن الاستفادة في هذا الجانب من التجربة المصرية في استيعاب المنح والمساعدات التي قدمتها دولة الإمارات، حيث قامت الحكومة المصرية وعبر تخطيط مسبق بتحديد الأولويات والنطاق الجغرافي للمشروعات التنموية التي مولتها الإمارات في مجالات تنموية طويلة المدى. وسيكون على أي حكومة قادمة في اليمن، بالإضافة إلى التخطيط الجيد لاستيعاب الدعم الخارجي، أن تقنع من يقفون إلى جانب الشعب اليمني من المانحين بأن لديها من الضوابط والتشريعات والممارسات الرشيدة ما ينهي إشكالية الفساد الذي يلتهم المساعدات الخارجية.