انطلقت دعوة المساواة الحديثة بين الجنسين من الغرب، ويجادل البعض: بل من الشرق وربما من العالم الإسلامي. إلا أن مجلة «إيكونوميست» البريطانية، قدرت قبل سنوات أن حصول المساواة بين الجنسين في مجال التجارة والأعمال في بريطانيا يحتاج 60 عاماً على الأقل، وفق تقديرات لجنة تكافؤ الفرص، أما المساواة في البرلمان فيلزمها 200 عام! وأضافت المجلة الرصينة: «إن التقدم في هذا المجال بطيء جداً، بل هو معرض دائماً للانتكاس إلى الوراء. إن كونك امرأة لا يزال مسألة غاية في الصعوبة». المقال نفسه يشير إلى تحولات جديدة غير معهودة في أوضاع الأثرياء من النساء، فالمصادر التاريخية لثروة المرأة- أي الزواج والإرث والطلاق- قد تم استبدالها بالدخل المستقل وامتلاك الشركات والاستثمارات، فنحو 80% من النساء يجمعن ثرواتهن من مجهودهن وبخاصة من خلال إدارتهن لشركاتهن الخاصة. أما الطلاق، الذي غالباً ما كان يعتبر المصدر الرئيسي لثروة المرأة، فلم يعد يشكل إلا نحو 3% من مصدر ثروة النساء اللواتي تم استطلاع آرائهن. غير أن الرجال، كما تشير التقارير، «فلا يزالون يسيطرون على الأعمال ذات الأجر المرتفع». ذهب تقرير من إعداد «رزان عدنان»، نشرته صحيفة القبس عن مجلة «فوربس»، في 03 / 07 / 2009، أن النساء يمثلن أرقاماً قياسية من حيث عددهن في القوة العاملة بالولايات المتحدة، أكثر من 46% من إجمالي القوة العاملة، وتمثل النساء 51% من جميع العاملين في القطاعات ذات الأجر المرتفع، إلا أن الفوارق بين الأجور لا تزال موجودة، إذ أن مجموع ما تجنيه النساء لا يتعدى 80 في المئة من مجموع ما يتقاضاه الرجل. أعجب ما ورد في تصنيف مجلة فوربس لأعلى الوظائف النسائية أجراً في أميركا كان حيازة مهنة الصيدلة المرتبة الأولى، بمتوسط إيراد أسبوعي تتقاضاه المرأة يبلغ 1647 دولاراً، وبمتوسط سنوي يبلغ 85644 دولاراً، نحو 85% مما يحصل عليه الرجل. وجاءت مهنة الرئيس التنفيذي في المرتبة الثانية، 83356 دولار سنوياً، وكانت المفاجأة الثانية مجيء المحاماة في المرتبة الثالثة بمتوسط سنوي يبلغ 78468 دولار، نحو 77% مما يحصل عليه الرجل، ثم مهنة هندسة برامج الكمبيوتر 70252 دولاراً أما المفاجأة التي لا تكاد تصدق فهي حلول مهنة الطبيبات والجراحات المرتبة السادسة بين أعلى الوظائف النسائية أجراً في الولايات المتحدة، بمتوسط سنوي يقارب 64 ألف دولار، وهو دخل يمثل 59% مما يحصل عليه الرجل. غير أن عمل المرأة الأميركية لا ينحصر بالمهن التي أشارت إليها مجلة «فوربس»، فهناك مثلاً امرأة بارزة مثل «ماري بارا»، رئيسة شركة جنرال موتورز، والسيدة «جانيت يلين» التي جرى تثبيتها قبل عام على رأس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي سنة 2014، فبعد يوم واحد فقط من قيام وزارة الخزانة الأميركية ببيع آخر حصة لها في شركة جنرال موتورز، أعلن الرئيس التنفيذي للشركة قراره بالتقاعد، واختار مجلس الإدارة «ماري بارا» لإدارة الشركة. ومضت «جنرال موتورز»، تقول مجلة: «بزنس ويك» عام 2013 «من شركة توشك على الاختفاء إلى 15 فصلاً متتالياً من الربحية«. وتحدثت «فاينانشيال تايمز» عن «أول امرأة ترأس شركة السيارات الأميركية»، فلاحظت أن صعود وترقي «بارا»، التي تبلغ من العمر 51 عاماً «أمراً غير عادي، لا سيما وأنها امرأة تعمل في صناعة يهيمن عليها الرجال». وأضافت الصحيفة: «أن في تعيينها ما هو جدير بالملاحظة كذلك، «بسبب حقيقة اختيار جنرال موتورز مهندسة لشغل هذا المنصب، بعد أن كان أعلى المناصب في الشركة يذهب إلى أحد المحسوبين على الجانب المالي». ولم يكن في تعيين «بارا» أي مجاملة سياسية، فقد استطاعت، وهي من مواطني ديترويت وابنة عامل في ورشة إنتاج في أحد المصانع، «أن تثبت جدارتها في عدة مواقع كمهندسة ومديرة مصنع ومديرة تنفيذية مسؤولة عن شؤون الموظفين والتصنيع، وقد لمع نجمها بفضل قدرتها على حل المشاكل، وهو ما عانت منه الشركة كثيراً. واليوم «تحتاج جنرال موتورز تلك النظرة الثاقبة القادرة على الرصد والانتباه الشديد لدقائق الأمور حتى تتمكن من إدارة أعمالها على أسس اقتصادية. فمع وجود 202 ألف موظف وإيرادات سنوية قوامها 152 مليار دولار و11 علامة تجارية تنتجها الشركة في 30 دولة، فإنها حتماً عملية ثقيلة صعبة». ولم يكن الطريق أمام الرئيسة ممهداً حتى خارج الولايات المتحدة. فمقال «الفاينانشيال تايمز» في أواخر عام 2013، يشير إلى خسائر الشركة في أوروبا وفشل استراتيجيتها في الأسواق الآسيوية خارج الصين، ونجاحها في أميركا لن يستمر إلى الأبد، إذ تأخرت الشركة «عن شركات منافسة أكثر كفاءة منها مثل فولكسفاجن». ولكن المقال نفسه يرسم كذلك بعض الملامح الشخصية للرئيسة: «يقول زملاء سابقون إن ما تفتقر إليه بارا من الخبرة في إدارة شركة بأكملها يعوضه أخلاقيات العمل الدؤوب التي تتسم بها. فهي دائماً أول من يصل إلى العمل في الصباح وترد على الرسائل الإلكترونية حتى وقت متأخر من الليل، وتتعامل بشكل روتيني مع المراسلات في الساعة الحادية عشرة مساء، بعد أن تضع أطفالها في السرير من أجل النوم». وجدت الرئيسة «ماري بارا» نفسها في عام 2014، إزاء تحد قالت عنه الصحف إنه «يتطلب أكثر من الاعتذار ودفع الغرامات». وذلك عندما برزت مشكلة وجود عيوب فنية في بعض سيارات الشركة، حيث قامت باستدعاء أكثر من مليون ونصف مليون سيارة بسبب مشاكل فنية تتعلق بمفتاح التشغيل وأكياس الهواء، يعتقد أنها «تسببت في وقوع حوادث أسفرت عن مقتل 13 شخصاً. وقد سحبت الشركة من الأسواق في النهاية ثلاثة ملايين سيارة من مختلف علاماتها التجارية، كما تكبدت الشركة فوق هذه الخسائر خسائر أخرى بلغت 400 مليون دولار نتيجة تقلبات أسعار الصرف في فنزويلا. وقد تعهدت «بارا»، الرئيسة التنفيذية للشركة «بالعمل على استعادة كامل ثقة عملاء الشركة، بعد أن تسببت عمليات استدعاء نحو ثلاثة ملايين سيارة من الأسواق إلى تراجع أرباحها بنسبة 88% في الربع الأول من العام الحالي». وثمة امرأة أميركية أخرى ترأس اليوم كذلك أهم مؤسسة مالية قيادية في الولايات المتحدة، ونعني «البنك المركزي الأميركي»، في شخص د. جانيت يلين، التي جرى تثبيتها على رأس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وهي خبيرة اقتصادية تحظى بالاحترام، قضت ثلث حياتها المهنية في البنك المركزي، وهي أول امرأة تترأس هذا البنك منذ نشأته قبل قرن! وُلدت «يلين» في «بروكلين» بنيويورك، وهي ابنة طبيب، حصلت على شهادة دكتوراه في الاقتصاد من جامعة «يل» عام 1976 وتزوجت بعد ذلك من جورج أكبر لوف، الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية، كما أن ابنها «روبرت» يدرِّس الاقتصاد في جامعة بريطانية». قامت د. يلين بتدريس الاقتصاد في جامعة هارفارد لمدة خمس سنوات، ثم في جامعة بيركلي بكاليفورنيا، إلى أن اختارها الرئيس الديمقراطي السابق بيل كلينتون لكي تكون أحد أعضاء مجلس إدارة «الاحتياطي» في 1994، وفي 1997 طلب منها الرئيس كلينتون تولي رئاسة دائرة المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض، ثم عادت عام 2004 إلى «الاحتياطي الفيدرالي». زحف المرأة الأميركية على المناصب القيادية والمؤسسات الكبرى لن يتوقف، ولن يقتصر على الولايات المتحدة. فحتى المرأة في العالم العربي صارت تزاحم الرجل تدريجياً في قيادة الشركات والمؤسسات ودرجة الثراء. وقد نرى قريباً «فتوحات نسائية» لم تحلم بها المرأة العربية.. ولا الرجل!