تشير التقديرات إلى أن حجم الإنفاق العالمي السنوي على الدعاية والإعلان، بلغ 467 مليار دولار في عام 2010، منها 143 ملياراً في الولايات المتحدة وحدها. ومن بين مئات المليارات تلك حظي التلفزيون بنصيب الأسد، حيث بلغ مدخول محطات التلفزيون من الإعلانات في مختلف دول العالم، ما يقارب 135 مليار دولار. وتظهر هذه الأرقام بشكل جلي مدى حجم وضخامة صناعة الدعاية والإعلان الذي أصبح جزء منها لا يستهان به موجهاً لتسويق الأطعمة والمشروبات، وبشكل متطور ومتمرس، مستهدفاً على وجه الخصوص الأطفال بوصفهم شريحة من المجتمع يسهل التأثير عليها. ومؤخراً أصبحت الإعلانات المذاعة على شاشات التلفزيون، والمدمجة في صفحات الإنترنت، وضمن الألعاب المحملة على الهواتف المحمولة، تشمل اتفاقيات رعاية، من خلال ما يعرف بتكتيك دمج المنتج (Product Placement)، ضمن المشهد أو الفيلم أو موقع الإنترنت أو ألعاب الفيديو، ودون أن يلاحظ المستخدم بشكل بيّن، بغرض غرس المنتج في اللاشعور. ولكن للأسف يروج جزء كبير من هذه الدعاية والإعلانات لأطعمة وأغذية مرتفعة المحتوى من الدهون، والسكريات، والأملاح، وهي المكونات الغذائية التي يجب الحد من تناولها، كونها تتعارض مع مواصفات ومكونات الغذاء الصحي السليم. فعلى سبيل المثال، أظهر تحليل للإعلانات والدعاية لأطعمة وأغذية مختلفة في التلفزيون اليوناني عامي 2007 و2008، أن 65 في المئة من تلك الإعلانات كانت تروج لأغذية مرتفعة المحتوى من الدهون، والسكريات، والملح. ومما يزيد الطين بلة، أنه قد ثبت أن إعلانات الأغذية، وغيرها من وسائل التسويق المختلفة، تترك أثراً عميقاً على اختيارات الأطفال من الطعام والمشروبات، وعلى سلوكهم عند طلب وشراء الأطعمة، وعلى مجمل سلوكهم الغذائي. كما ثبت أن التسويق لأغذية غير صحية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بارتفاع معدلات الإصابة بزيادة الوزن والسمنة لدى الأطفال. وبما أن العادات بوجه عام، والغذائية بوجه خاص، تحفر في أذهان وسلوك الأطفال منذ سن مبكرة، وتبقى معهم خلال مراحل العمر المختلفة في الغالب، فقد أصبحت أصابع الاتهام توجه للإعلانات والدعاية التي تسوق الأطعمة غير الصحية للأطفال، بكونها أحد المسؤولين الرئيسيين عن اتباع كثيرين لنمط حياة غير صحي خلال مرحلة المراهقة، والشباب، وبقية مراحل العمر، مع ما ينتج عن ذلك من مضاعفات صحية خطيرة، ترتبط بزيادة الوزن والسمنة، مثل ارتفاع احتمالات الإصابة بداء السكري من النوع الثاني، وبأمراض القلب والشرايين، مثل الذبحة الصدرية، والسكتة الدماغية، وغيرها الكثير من الأمراض والعلل، وربما حتى الوفاة المبكرة. ولذا فقد لا يكون من المبالغة في شيء إذا قلنا إن الإعلانات والدعاية، التي يشاهدها الإنسان صغيراً، قد تقتله كبيراً. وهو ما يجعل من تلك الإعلانات، وما ينتج عنها من عواقب وآثار صحية وخيمة، قضية صحة عامة بكل المقاييس. وبالفعل شرعت العديد من الهيئات الصحية، والحكومات الوطنية، في التعبير عن قلقها من تأثير التسويق الغذائي الموجه خصيصاً للأطفال. وبدأت بالفعل بعض الدول مثل إسبانيا والنرويج في التوصل إلى تفاهم غير رسمي، ولاتفاقيات غير ملزمة، مع شركات الأطعمة والمشروبات، لحثها على تنظيم نفسها ذاتياً، ووضع قيود تلقائية على نشاطات التسويق الموجهة للأطفال، تحت مراقبة الحكومات المعنية. وإن لم يؤت هذا المسعى ثماره، بشكله الحالي، غير الرسمي وغير الملزم، فقد تضطر الحكومات تلك، لسن القوانين، ووضع التشريعات الملزمة. وهو المنحى الذي اتخذته الحكومة البريطانية، بوضع حظر تشريعي وقانوني، على الدعاية أو الإعلان عن أطعمة مرتفعة المحتوى من الدهون، أو السكريات، أو الأملاح، في الأوقات المخصصة لبرامج الأطفال، وهذه تعتبر سابقة أولى من نوعها على مستوى العالم. كما اتخذت الحكومة البريطانية أيضاً موقفاً رائداً آخر، متمثلاً في وضع شروط ومعايير خاصة، على الأطعمة المصنعة، وتلك مرتفعة المحتوى من مكونات غذائية غير صحية. وقد أظهرت الدراسات والأبحاث، أثراً ملموساً لتلك الإجراءات والتشريعات، حيث انخفض حجم الإعلانات المروجة لأغذية غير صحية بمقدار 37 في المئة في غضون بضع سنوات، كما انخفضت ميزانيات التسويق المروجة لأغذية مرتفعة المحتوى من الدهون والسكريات والملح، الموجهة خصيصاً للأطفال، بمقدار 41 في المئة، من 103 ملايين جنيه إسترليني، إلى مجرد 61 مليوناً، مع توقع استمرار انخفاض تلك الميزانيات. ومؤخراً انضم العديد من المنظمات الطبية، والهيئات الدولية العاملة في مجال الصحة العامة، بما في ذلك منظمة الصحة العالمية، لمطالبة شركات المشروبات والأغذية، وبقية الوسائل الإعلامية التي تبث وتنشر وتوزع من خلالها الإعلانات، بضرورة تحمل المسؤولية الأخلاقية لمنتجاتها، وعدم السعي للربح السريع، حتى ولو كان الثمن هو صحة أطفالنا حالياً، وشبابنا ورجالنا ونسائنا مستقبلاً. ويأتي هذا الاتجاه العالمي المتصاعد، في وقت ترزح فيه البشرية تحت عبء وباء من زيادة الوزن والسمنة، حيث كانت منظمة الصحة العالمية قد أعلنت بالفعل عام 1997 أن السمنة العالمية قد وصلت إلى حد الوباء، وفي عام 2008 قدرت المنظمة وجود أكثر من 500 مليون شخص يعانون السمنة المفرطة، أي ما يعادل 10 في المئة من أفراد الجنس البشري، ويشكل الأطفال حتى ممن هم دون سن الخامسة، نسبة لا يستهان بها من هؤلاء.