دخلت مؤخراً مركبة فضائية هندية تدعى «مانغاليان» المدار حول كوكب المريخ بعد رحلة قاربت السنة قطعت فيها مسافة 666 مليون كيلومتر تقريباً، لتصبح بذلك الهند هي الدولة الآسيوية الأولى التي تدخل نادي مستكشفي الكوكب الأحمر والرابعة بعد الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وروسيا. وقال رئيس الوزراء الهندي وسط تصفيقات في مركز قيادة منظمة أبحاث الفضاء الهندية: «لقد حققنا اليوم إنجازاً سيسجله التاريخ، لقد خضنا التحدي للوصول إلى المجهول وأنجزنا شيئاً يشبه المستحيل»، وهذا مكسب لدولة الهند! نعم، إنها قدرة الإنسان الهندي على التحدي وتحقيق المستحيل. منذ زمن والهند تتوافر على السلاح النووي، ولكن هذا لا يهم في مقالتنا هذه، فما يهم هو أن الهند بدأت تستفيد من تطور بحثها العلمي، ومن الاستثمار في الموارد البشرية والتكنولوجيا المتطورة. ويستوقفني هنا رد المفكر «جوزيف ناي» على أولئك الذين قالوا إن القوة الأميركية في اضمحلال مستمر، فمشكلة القوة الأميركية في القرن الحادي والعشرين، ليست مشكلة اضمحلال، بل مشكلة ما يجب فعله في ضوء إدراك أن الدولة الكبرى نفسها لا يمكنها تحقيق النتائج التي تريدها، من دون مساعدة الآخرين، فهناك عدد متزايد من التحديات التي ستقتضي من الولايات المتحدة الأميركية ممارسة القوة مع الآخرين، بقدر ممارسة القوة على الآخرين، مما يفرض أيضاً فهماً أعمق للقوة، وكيف تتغير، ومعرفة كيفية وضع استراتيجيات للقوة الذكية تجمع بين موارد القوة الخشنة والقوة المرنة في عصر المعلومات..وأعتقد أن الهند أصبحت مجسدة لهذه القوة الذكية. فهذه القوة في القرن الحادي والعشرين لا تعني عدد الرؤوس النووية التي تتوافر عليها البلد، أو كيف تحافظ على السيطرة العسكرية، بل يعني ذلك إيجاد طرائق للجمع بين الموارد في استراتيجيات ناجحة في مجال التنمية والابتكار، وعدد سكان الهند كبير جداً: أزيد من مليار ومائتي مليون نسمة. وكل المؤشرات توحي بأن هذا البلد بدأ يدخل نادي الدول الكبار في المجالات الاقتصادية والبحثية والابتكارية دون نسيان المجالات العسكرية المتعددة. كما أن بعض المحللين الاقتصاديين يكتبون أن الهند يمكن أن تحتل اقتصادياً الرتبة الثالثة عالمياً في حدود سنة 2030 نظراً للتطور الهائل الذي يشهده القطاع الخاص الهندي، ثم هناك أكثر من نصف السكان تقل أعمارهم من 25 سنة بمعنى أن مشكل الشيخوخة الذي تعانيه دول جارة، كالصين وتداعيات ذلك اقتصادياً واجتماعياً لا يشغل بال المسؤولين الهنود، ولكن القوة التي سمحت لها بدخول عالم مستكشفي الكوكب الأحمر تكمن في البحث العلمي المتطور وفي علمائها الذين هم في تزايد مستمر: أكثر من 400000 مهندس يتخرجون سنوياً من الجامعات والمعاهد الهندية المتخصصة، أي بمعدل مماثل لعدد المتخرجين من أميركا، وأكثر بكثير من عدد المتخرجين في أوروبا مجتمعة. كما أن الهند متفوقة عالمياً في مجالات رائدة، كالتكنولوجيات الحديثة، والصيدلة وصناعة الآليات والصناعة المتعلقة بالفضاء. وفي الهند أزيد من 50 مليون مستثمر يجعلون من الصناعة الهندية مجالاً للابتكار والكفاءات أكثر من جارتها الصينية، كما أن للمقاولين والمستثمرين الهنود مخاطبين كثراً، نظراً للديمقراطية التشاركية (من الحكومات المحلية، ومجموعات الضغط، والمواطنين، والمحاكم) أما في الصين، فالمخاطب الوحيد هو الدولة. إن وصول الهند إلى كوكب المريخ يوحي لكل متتبع حصيف بأن المجتمعات التي ستهيمن أكثر على العالم هي المجتمعات المبنية على المعرفة والمهارة والبحث العلمي المتطور والابتكار. والوطن العربي يسجل للأسف تأخراً كبيراً في هذا المجال، فإذا أخذت مثلاً التصنيفات الدولية العالمية المعتمدة للجامعات كتصنيف «شنغاي»، فالريادة دائماً للولايات المتحدة الأميركية، ثم بريطانيا، ثم آسيا. وهذا التصنيف يعتمد، ضمن معايير أخرى، على البحث العلمي المتميز المنشور في دوريات عالمية (40%)، وكثرة الرجوع والإحالات إلى أبحاث أعضاء هيئة التدريس (20%)، وحجم الأداء الأكاديمي قياساً إلى حجم المؤسسة (10%)، والانفتاح، والحضور والتأثير الملموس للمؤسسة العلمية في المؤتمرات والندوات الإقليمية والعالمية، فضلاً عن عدد الحاصلين على جوائز التفوق (خريجين وأساتذة) في التخصص، وأبرزها جوائز نوبل (30%.) والجامعات العربية دائماً في ترتيب متأخر جداً. إن تنمية المهارات والعلم والبحث والتنمية والابتكار هي المفتاح الذي يسمح لدولنا العربية، بفرص ربح معركة التنافسية، وبالتالي معركة العولمة. ويتطلب التحدي من هذا النوع اعتماد نظام تعليمي قوي وذي جودة، كما يتطلب رؤية واضحة في مجال التنمية التكنولوجية، وهذا هو الأساس لتحقيق الرفع من مستوى التنمية في الوطن العربي. لقد نجحت جامعات الهند والعديد من الجامعات الآسيوية في تطوير البحث العلمي والتكنولوجي بكيفية مكنتها من تحقيق المستحيل وبموارد قليلة جداً، مثل اليابان عند انطلاقها اللهم إلا ما تعلق بالموارد البشرية وهو ما نملكه نحن أيضاً... وللتذكير فإن القوة الزائدة على الحد -من حيث الموارد- كثيراً ما أثبتت أنها سلبية عندما تفضي إلى الثقة المفرطة، واتباع استراتيجيات غير ملائمة. وآخر الكلام: نذكر أن روبير ويلسون Rober Wilson الحاصل على جائزة نوبل، والمشارك في التجارب الأولى المتعلقة بالانشطار النووي الذي انتهى بصنع القنبلة الذرية الأميركية «برنامج مانهاتان»، دعا في سنة 1969 إلى المؤتمر الأميركي للدفاع عن مواصلة برامج البحث في الفيزياء النووية -وهي برامج مكلفة جداً- فسأله السيناتور جون باستور John Pastore: «هل يخدم مشروع الانشطار النووي أمن الولايات المتحدة الأميركية؟»، فأجابه ببراءة: «إن المشروع الذي أطلب منكم دعمه لا يخدم بشكل مباشر أميركا، ولكنه يعمل على أن تكون أميركا بلداً يستحق أن ندافع عنه».