«الصحة العالمية» وأوبئة الأمراض المعدية
أظهر تتابع انتشار أوبئة الأمراض المعدية -خصوصاً الفيروسية منها- خلال السنوات القليلة الماضية، عدم اعتراف هذه النوعية من الأمراض بالحدود السياسية، أو بالحواجز الجغرافية، وعدم استثنائها طائفة عمرية أو طبقة اجتماعية، وقدرتها على الانتشار بين الدول والقارات في غضون أيام، أو ساعات قليلة، وشراستها بالفتك بضحاياها، دون الأخذ في الاعتبار جنسهم، أو عرقهم، أو ديانتهم. وذلك مثل وباء فيروس «السارس» الذي بدأ جنوب الصين في نوفمبر 2002، واستمر حتى يوليو 2003، متسبباً في 8273 حالة إصابة، توفي منها 775، غالبيتها في «هونج كونج». وفي غضون أسابيع، ومع بداية عام 2003، كان الفيروس قد تمكن من الانتشار في 37 دولة أخرى. وخلال العام المشؤوم نفسه، أو 2003، ظهر وانتشر في الدول الآسيوية نوع شرس من فيروس الإنفلونزا (H5N1)، الذي عرف بإنفلونزا الطيور، ليصل بحلول عام 2005 إلى الدول الأوروبية، ودول الشرق الأوسط، بالإضافة إلى بعض الدول الأفريقية، مستمراً في إيقاع الضحايا حتى عام 2012، في فيتنام، وكمبوديا، ومن بعدهما الصين، ثم كندا، التي سجلت أول حالة وفاة فيها بسبب إنفلونزا الطيور في يناير 2014.
وخلال سنوات العقد الأول من القرن العشرين، نجحت نسخ معدلة من فيروس الإنفلونزا العادية، وفيروس إنفلونزا الطيور، وإنفلونزا الخنازير، في التلاحم وإنتاج صنف أو جنس جديد من فيروسات الإنفلونزا (H1N1)، عرف إعلامياً بإنفلونزا الخنازير، الذي ظهر أول مرة في أبريل 2009، في إحدى ولايات المكسيك، ليقتل بحلول يوليو 2010، أكثر من 18 ألف شخص، حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية، وهو العدد الذي يعتقد الكثيرون أنه أقل بكثير من العدد الفعلي للضحايا، حيث قدرت الدراسات اللاحقة، أن عدد الضحايا قد يقارب 579 ألفاً، بناءً على أن إحصائيات الأمم المتحدة السابقة، شملت فقط حالات الوفيات التي تم تأكيد إصابتها بالفيروس معملياً، وهو ما يعني أن من لم يتم تشخيصهم في المختبر أو لم تتوافر لهم من الأساس أي رعاية صحية، لم يتضمنوا في العدد الأصلي للضحايا. وهو ما دفع بمنظمة الصحة العالمية إلى رفع تقديراتها لعدد الوفيات إلى 284 ألفاً على الأقل، معظمهم في الدول الأفريقية، ودول جنوب شرق آسيا.
وحالياً، ترزح دول غرب القارة الأفريقية، تحت نير وباء فيروس «إيبولا»، الذي بدأ في غينيا منذ ديسمبر 2013، لينتشر من بعدها إلى ليبيريا، وسيراليون، ونيجيريا، والسنغال، ومؤخراً إلى الولايات المتحدة، وإسبانيا، متسبباً حتى الآن في مقتل أكثر من 3500 شخص. ومرة أخرى، يرى الكثيرون أن العدد الرسمي للوفيات، أقل بكثير من العدد الحقيقي، وللأسباب سابقة الذكر نفسها أيام وباء إنفلونزا الخنازير.
ويظهر هذا العرض الموجز لأوبئة الأمراض الفيروسية المعدية، خلال عقد واحد من الزمن، قدرتها على الانتشار من دولة إلى دولة، ومن قارة إلى قارة، في وقت قصير نسبياً، مقارنة بسرعة انتشار الأوبئة خلال مراحل التاريخ السابقة، حيث كان قديماً يستغرق السفر من بلد إلى بلد، أسابيع وشهوراً، غالباً ما يلقى خلالها المصاب حتفه في الطريق. والآن، يمكن لشخص مصاب بفيروس -أو فيروسات وميكروبات عدة - أن ينتقل بين دول عدة، وبضع قارات أحياناً، حتى قبل أن تظهر عليه أعراض المرض. مثل هذا التغير الجذري في سرعة ومدى انتشار الأمراض المعدية، جعل من مفهوم وعلم الصحة العالمية (Global Health)، أحد أهم المجالات ضمن الاستراتيجيات الهادفة لمكافحة الأمراض المعدية، على جميع المستويات، حيث تعرّف «الصحة العالمية»، والمعنية بصحة مجتمع، أو شعب، أو دولة، من منظور عالمي، على أنها «الدراسة، والبحث، والممارسات، التي تجعل من أهم أولوياتها تحسين الصحة، وبلوغ المساواة الصحية لجميع الناس حول العالم، مع التركيز على التحديات التي تتخطى الحدود القومية، أو تلك التي تحمل في طياتها تبعات سياسية، واقتصادية، عالمية التأثير». وهو ما يعني أن «الصحة العالمية»، تختص برفع المستوى الصحي من منظور دولي، وبخفض الفجوة الصحية بين الشعوب والمجتمعات، وتوفير الحماية ضد المخاطر الصحية العالمية التي لا تعترف بالحدود.
ورغم أن «الصحة العالمية» في مفهومها العام، تتضمن جوانب وتحديات عدة صحية، مثل الوقاية ضد أمراض الإسهال، وخفض الوفيات بين الحوامل والأمهات، ومكافحة الملاريا، والإيدز، والعنف ضد النساء، ومكافحة سوء التغذية، والوقاية من الأمراض المزمنة غير المعدية، إلا أنه من السهل أن ندرك أن البنية التحتية، والموارد البشرية، والمالية، والشبكة المعلوماتية، التي تؤدي «الصحة العالمية» من خلالها وظائفها السابقة، هي البنية، والموارد، والشبكة نفسها، التي توظف في حالات الطوارئ الصحية العالمية، كتلك التي تفرضها أوبئة الأمراض المعدية. ففي الوقت الذي غيرت فيه العولمة من أوجه كثيرة للحياة البشرية، مثل التجارة، والاقتصاد، والسياسة، والثقافة، فمما لا شك فيه أن أحد أهم التغيرات الناتجة عن العولمة، يتجسد في العديد من الجوانب الصحية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمدى وسرعة انتشار الأمراض المعدية الوبائية، وبطرق واستراتيجيات مكافحتها.