تابعت باهتمام أعمال المؤتمر التربوي الرابع الذي نظمته وزارة التربية والتعليم في شهر سبتمبر الماضي، وما جاء فيه من أفكار مستنيرة تم طرحها كمدخل لتطوير التعليم، والتي جعلتها وزارة التربية عنواناً لمرحلة التطوير القادمة. القراءة المتأنية لما جاء في فلسفة وأهداف هذه الرؤية الجديدة، تبين لنا أن التربية جادة في إحداث حالة من التغيير والإصلاح داخل النظام التعليمي وفي جوهر العملية التعليمية، فمثلا إلغاء التشعيب في المرحلة الثانوية من شأنه إحداث تحول إيجابي في نظام التعليم، إذ سيمكن للطالب امتلاك القدرة والمهارة لتحديد مستقبله الوظيفي من الصف العاشر، وسيساعد ذلك على التخلص من برامج السنة التأسيسية تدريجياً. والأمر ينطبق أيضاً على باقي النقاط التي طُرحت كأساس لعملية التطوير، مثل زيادة معدلات المدارس ذات الجودة العالية، ورفع كفاءة المعلمين، وتطوير القيادة المدرسية، وزيادة معدلات الالتحاق برياض الأطفال إلى أكثر من 95%، وخفض التباين بين مستويات التحصيل العلمي بين الذكور والإناث، وتوفير خدمات مدرسية عالية الجودة، والارتقاء بمستوى أداء الطلبة في الاختبارات الدولية، وزيادة نسبة الطلبة الملتحقين بالجامعات دون الحاجة للسنة التأسيسية، وإكساب الطلبة خبرات نوعية حول سوق العمل عبر التدريب الصيفي، وزيادة معدلات التحاق الطلبة بالتخصصات العلمية. وتؤكد تلك التوجهات أن النظام التربوي في المرحلة القادمة سيشهد تغييرات مهمة في الشكل والمضمون، وستصبح مخرجاته هي مدخلات التعليم الجامعي، وبذلك تكون التربية قد سلكت الطريق الصحيح الذي يدخلها في دائرة التنافس العالمي. فالعالم من حولنا يتغير ويتبدل وعصر المعرفة لا يقبل بطالب ضعيف بل يريد طالباً يمتلك كل أدوات المعرفة والإبداع والابتكار، طالباً يبحث ويفكر ويخترع وينتج بمستوى عالي من الجودة. ومما يسهم في إنجاح التوجهات الجديدة تبني التربية مبدأ المشاركة المجتمعية في تحقيق هذه الأهداف عبر إشراك ممثلين عن الجهات المعنية بالتعليم في صياغة رؤية التطوير وبناء خططه، وأشير بذلك إلى التوجهات التي صدرت عن معالي وزير التربية حسين الحمادي بضرورة استحداث أساليب جديدة لتفعيل مشاركة الميدان التربوي في أعمال التطوير واستثمار الخبرات والكفاءات التي يزخر بها الميدان، إلى جانب الاستفادة من الأفكار والمبادرات المبتكرة لمديري المدارس والمعلمين والموجهين، وكذلك إسهامات أولياء الأمور بملاحظاتهم الموضوعية والاستماع للطلبة ومعرفة احتياجاتهم. هذه المشاركة المجتمعية ستفتح لنا آفاقاً جديدة ورؤى متنوعة تثري العملية التعليمية وتشق طريقها نحو الأفضل. إن قواعد التفكير الاستراتيجي تدعونا أيضاً إلى الأخذ بعين الاعتبار ما انتهت إليه التجارب السابقة، لأن التجربة التاريخية في مجال التعليم تشير إلى أن جوهر الخلل الدائم في التعليم هو الافتقار إلى مبدأ التراكمية، أي البدء من أول السطر وليس من حيث انتهى إليه الآخرون، مع أن جميع التجارب الناجحة في التعليم يبدأ أصحابها من حيث انتهى إليه الآخرون، لأن طبيعة العلم والمعرفة والخبرة ذات طابع تراكمي، كالبناء لا تقوم فيه خطوة دون قواعد وأسس، حيث تتم الاستفادة، عبر الاستكمال والإصلاح والتعديل والتطوير، مما هو موجود، وذلك بدراسة ما تحقق وما لم يتحقق، خدمة للتعليم وأجياله وتجنباً لسداد أثمان غير ضرورية.