يتركز التوتر وعدم الاستقرار في عالمنا اليوم -وهما دائماً خليط معقد من أسباب داخلية ومن تداعيات إقليمية ودولية- في منطقتين اثنتين: العالم العربي- الإسلامي وصولاً إلى أفغانستان، والدول التي لم تستكمل خروجها من الفلك الشيوعي، ولاسيما منها أوكرانيا. وما دام هذا العام قد شهد مرور الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى (1914)، جاز القول إن المقارنة تبدو مغرية بين مسرح التوتر الذي قاد إلى تلك الحرب، وبين مسرحه الراهن المشار إليه أعلاه، مع الشك الكبير في أن يقود، هذه المرة، إلى حرب عالمية كبرى. والحال أن الحرب العالمية الأولى كانت أوروبية المسرح والفاعلين، وقد ارتبط اندلاعها بالمسألة القومية وتشكل الأمم وتصدع الإمبراطوريات القديمة في تلك القارة «العجوز» وعلى أطرافها. لا بل حتى الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) التي تجاوزت نيرانها أوروبا إلى المحيط الهادئ والشرق الأقصى وأجزاء من القارة الأفريقية، بقيت بدورها أوروبية أساساً، وكان مدارها وموضوعها مدى احتمال القارة المذكورة للنظامين النازي الألماني والفاشي الإيطالي ولنزوعهما التوسعي المتأخر. وحتى الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، بين أواخر الأربعينيات وأواخر الثمانينيات، التي خيضت بأدوات وأشكال مغايرة لما عرفته الحربان العالميتان الأولى والثانية، لم تشذّ عن النسق العام الذي حكم الحرب العالمية الثانية. صحيح أن الحرب الباردة استطاعت أن تخترق قارات الكون كلها، كما تقاطعت مع مسائل راهنة وعديدة وبالغة الأهمية، كنهاية الاستعمار أو نماذج التنمية المفضّلة أو شكل الحاكمية السياسية، إلا أن مسرحها الأول ظل أوروبا (مسألة ألمانيا وبرلين خصوصاً)، مع ترك المسرح الثاني للشرق الأقصى (كوريا أصلاً، ثم فيتنام ولاوس وكمبوديا...)، وربّما جاز القول إن أميركا اللاتينية والشرق الأوسط حظيا بالمسرحين الثالث والرابع. لكنْ اليوم، وفي ظل انحصار التوتر والفوضى في العالم الإسلامي، وبدرجة أقل في بعض البلدان الشيوعية السابقة، يتعين من أجل التوصل إلى فهم أفضل، أن نرجع إلى الصيغة التي انتهى إليها العالم بعد الحرب الباردة وما عُرف بـ«الطفرة الديمقراطية» التي تلت نهايتها. ذلك أن الموجة الديمقراطية لم تكتف بتصديع الاتحاد السوفييتي وبلدان معسكره الشرقي، وبهزّ الصين الشيوعية هزاً عنيفاً من خلال المواجهة التي سجلتها ساحة «تيان آن مين» الشهيرة. فهي إلى جانب ذلك أحرزت انتصارات ملحوظة في أفريقيا، كان أهمها سقوط النظام العنصري في جنوب القارة، كما في أميركا اللاتينية التي ودّعت الانقلابات العسكرية. لقد كانت الديمقراطية في عقد التسعينيات بمثابة رد كوني على الحروب ومبدأ القوة. وهذا ما لم يفهمه يومذاك صدام حسين الذي ظن، من خلال غزوه دولة الكويت في 1990- 1991، أن في وسعه استئناف الاستقطاب الدولي على نحو يلعب فيه هو الدورَ الذي كان منوطاً بالاتحاد السوفييتي وحلفائه. آنذاك، في مناخ حرب الكويت واستنكاف منطقتنا عن دخول الطور الديمقراطي، ظهر في التداول السياسي العالمي مصطلح «الاستثناء العربي» الذي وسّعه البعض وجعله «استثناء إسلامياً» أيضاً. وفي غضون ذلك، ومع سقوط التجربة شبه المأساوية -شبه الهزلية لبوريس يلتسين في روسيا، وصعود نجم الوريث فلاديمير بوتين، حاولت موسكو الحد من تآكل نموذجها السابق، أتجسد ذلك في كبح التحول الديمقراطي لروسيا كما بدأ في أواخر العهد الغورباتشوفي، أو في محاولة استرجاع بعض النفوذ الإمبراطوري في الجوار الإقليمي لموسكو، والذي سبق أن انهار بانهيار الاتحاد السوفييتي. وربما أمكن، مع ملاحظة بعض الفوارق المهمة، إدراج ما يحدث اليوم في هونغ كونغ في خانة قريبة، أو في هامش على متن هذه الخانة. فهونغ كونغ التي بقيت في عهدة بريطانيا حتى 1997، وتمتعت بثمار الديمقراطية البريطانية طويلاً، تصطدم حالياً بتراجع الحكم الصيني عن تعهده للبريطانيين بالحفاظ على نظامين مختلفين داخل بلد واحد. ويبدو، فوق هذا، أن ما فاقم الوضع في هونغ كونغ حقيقة أن حاكمها «كسي جينبينغ»، الذي تولى القيادة الصينية في 2012 وجمع في يده معظم المناصب الرسمية والحزبية والعسكرية العليا، إنما غير أسلوب القيادة الجماعية المعمول به منذ رحيل دينغ هشياو بنغ عام 1997، مُكسباً النظام الصيني وجهاً أشد مركزةً وربما جنوحاً إلى الاستبداد. ولكنْ لئن لم يطرأ في روسيا أي جديد على صعيد المحاولة البوتينية، خصوصاً وقد وجدت ما يعززها في ارتفاع أسعار الصادرات الغازية والنفطية لموسكو، فإن العالم العربي تعرض لثورات «الربيع العربي» التي بدا لوهلة أنها تتحدى نظرية «الاستثناء» المشار إليها أعلاه. بيد أن الأمور في العالم العربي آلت، كما هو معروف، إلى انتكاسات مُرّة للثورات أفضت، بين ما أفضت إليه، إلى اصطباغها بالحروب الأهلية وبالنزاعات والطموحات الإقليمية الكثيرة والمتضاربة. وشيئاً فشيئاً راحت هذه الأخيرة، على ما نرى في سوريا وليبيا واليمن، تتحكّم فيما بقي من تلك الثورات وترسم وجهاتها ومصائرها. وقصارى القول، إن التوتر في عالمنا الراهن يبدو وثيق الصلة بمسألة الديمقراطية أو بالأحرى بصعوباتها وإعاقاتها (في العالم العربي) كما بانتكاساتها (في بعض البلدان الشيوعية السابقة). أمّا العالم المتقدّم، وفي صدارته أوروبا الغربيّة التي كانت مهد ومصدر الحروب السابقة، ومعها أميركا الشمالية، فتشي الإيحاءات كلها بأن استقرارها الديمقراطي وضع ذاكرة التوتر، ناهيك عن الحروب، وراءها. وليس بلا دلالة أن ما يُسمى اليوم «الحرب على الإرهاب»، والتي انطلقت بعد ضربات «القاعدة» في نيويورك وواشنطن، باتت محصورة تماماً في البلدان غير الغربية وغير الديمقراطية. هكذا كرر أسامة بن لادن خطيئة عدم الفهم الكامل للعالم التي ارتكبها قبله بعقد واحد صدام حسين. وهذا ما يقول لنا، مرة أخرى، كم أن التوتر واضطراب الحياة اليومية خليط من أسباب داخلية، أو بالأحرى إعاقات داخليّة، ومن تداعيات إقليمية ودولية قد يبحث أصحابها في إعاقات الآخرين عن فرصتهم.