يسترعي التبدل المذهبي والعقائدي الديني الالتفات، وذلك لما يسفر عنه من نتائج وخيمة في أغلب الحالات، ولم يكن ظاهرة حديثة في مخاطرها، في العداء والبغضاء، وكأن المتحول حديثاً يريد الثأر لوجده في مذهب أو على عقيدة لردح من الزمن. وعملياً أحاطت المذاهب نفسها بحصانات، ومنها بغض المتحول عنها، إذا لم يكن تكفيره. وبطبيعة الحال لم يكن ذلك مختصراً على المذاهب والجماعات الدينية، وإنما جرى أيضاً بين الجماعات السياسية، كالانتقال من الماركسية إلى الاتجاه القومي مثلا، لكن ذلك لا يحمل مخاطر اجتماعية بقدر ما يخص الفرد، وإن بغض المتحول لا يتعدى فضاء المتحول نفسه، مثلما يواجهه المتحول دينياً أو مذهبياً، فأول ما ينظر في أمر أسرته وصداقاته وكل صلاته الاجتماعية. لفتت نظري تحولات معاصرة، منها ما أسفر عن القتل والتكفير والتفسيق، لكننا قبل ذلك سنعرض تحولات سابقة، جرت على أرض العراق، وما زالت حاضرة وللعراق صلة بها. نقرأ مثلا تحول شخصيات من عقيدة الاعتزال إلى عقائد أُخرى، وكيف أن المعتزلة حاربوا هؤلاء (المرتدين) عنهم، وكيف أن المتحولين أو المتمردين أنفسهم لم يدخروا كلمة إلا وقالوها ضد المعتزلة، المذهب الذي كانوا ينتمون إليه. كذلك لدينا تحول في الفروع من مذهب إلى آخر اقتضته الحياة، بعد قيام المدرسة النظامية على يد الوزير السلجوقي الشهير نظام المُلك (اغتيل 485هـ). أحد أبرز المتحولين من الاعتزال أبو الحسين الراوندي (ت نحو 250هـ)، لذا ترى مؤرخي المعتزلة عندما يذكرونه يلحقون باسمه كلمة «المخذول»، بعد أن تعرف ابن الراوندي على الاعتزال بالبصرة، ونشأ معتزلياً، وقد عده القاضي عبد الجبار (ت 415هـ) مِن طبقتهم الثَّامنة. ويدعون هؤلاء المؤرخون بأن جنوحه عن الاعتزال هو بداية جنوحه عن الإسلام إلى مخالطة الملحدين والزنادقة. ومن ذلك ما يذكره البلخي (ت 319هـ) برواية الذهبي: «كان أول أمره (عندما كان معتزلياً) حسن السيرة، كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك لأسباب، وكان علمه فوق عقله» (سير أعلام النبلاء). وصل الأمر أن صنف ابن الرواندي ضد مذهبه السابق كتاب «فضيحة المعتزلة»، وكان رداً على كتاب الجاحظ المعتزلي (ت 255هـ) «فضيلة المعتزلة». وصنف ضده شيخ المعتزلة أبو الحسين عبد الرحيم الخياط (بعد 300هـ) كتاباً شديداً في عنوانه ونصه: «الانتصار والرد على ابن الرواندي الملحد ما قصد به من الكذب على المسلمين والطعن عليهم». وحسب مصادر مؤرخي الاعتزال، وما يُفهم من كتاب «الانتصار» أن صاحبهم القديم ابن الراوندي قد تحول إلى المذهب الشيعي، فصار ضدهم وهم ضده إلى حد التكفير والتربص. بدلالة صاحب «أعيان الشيعة» أيضاً: «ثم أظهر مذهب الشيعة الإمامية، وألف كتباً على طريقتهم، ككتاب الإمامة وغيره، وكتاب معجزات الأئمة». بعد ابن الراوندي تحول عن الاعتزال أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ)، وحسب مؤرخي سيرته أنه ظل معتزلياً لأربعين عاماً. كتب ابن عساكر (ت 571هـ): «شيخنا وإمامنا ومن عليه معولنا، قام على مذهب الاعتزال أربعين سنة، وكان لهم إماماً» (تببين كذب المفتري). وقال أتباعه فخراً بخروجه من الاعتزال إلى العقيدة السنية، حتى البعض اعتبره مؤسساً لعلم الكلام السني أو الأصول السنية: «كان المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله تعالى الأَشعري، فحجرهم في أقماع السِّمسم» (البغدادي، تاريخ بغداد). وبعد الخروج على المعتزلة نُقل عنه أنه قال: «مَنْ عرفني فقد عرفني، ومَنْ لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي. أنا فلان بن فلان، كنت أتقول بخلق القرآن، وأن الله لا تراه الأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع، معتقد للرد على المعتزلة، مخرج لفضائحهم ومعايبهم» (ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان). وبسبب العداء ظلت الحرب شعواء بين المعتزلة والأشاعرة، بل وتفرعت إلى ما بين الأشاعرة والحنابلة. لأن الخلاف فيه عقائد والمتحول لا يترك ماضيه العقائدي بلا نقد، مع الإشارة إلى أن السلطات السياسية كانت متصلة بهذه الخلافات، فما أن اعتقد الخليفة المأمون (ت 218هـ) عقيدة الاعتزال حتى أعلن امتحان «خلق القرآن» في أهل الحديث، وما أن أعتلى المتوكل (ت 247هـ) حتى ضرب المعتزلة بأهل الحديث، ولو كان الأمر خارج السلطة لهان، وما وُرط به العوام بالطرقات. ومن أمثلة التحول المذهبي أن شيخ الطائفة الشيعية أبا جعفر الطوسي (ت 460هـ) كان شافعياً. قال السُّبكي: «فقيه الشيعة ومصنفهم، كان ينتمي إلى مذهب الشافعي، قَدِم بغداد وتفقه على المذهب الشافعي» (طبقات الشافعية الكبرى). وأُفتتحت المدرسة النظامية ببغداد في العهد السَّلجوقي، وتبدل مذهب السلاجقة من الحنفي إلى الشافعي في الفروع والأشعري في الأُصول، وصار من تقاليد هذه المدرسة أنها لا تقبل فيها غير الشافعيين الأشاعرة، فارتج على بقية المذاهب. ومن طريف ما يذكر أن المبارك النحوي الضرير (ت 532هـ) قد بدّل مذهبه عدة مرات. فقيل «كان أولا حنبلياً، ثم إن الخليفة طلب لولده حنفياً يعلمه النحو، فانتقل إلى مذهب أبي حنيفة، ثم شغر تدريس النحو بالمدرسة النظامية، وشرط الواقف أن لا يفوض ما يتعلق بها إلا لشافعي، حتى الفراش والبواب، فانتقل الوجيه إلى مذهب الشافعي وتولاه». وقد داعبه مؤيد الدين التكريتي (ت 599هـ) بالآتي: «فمَن مبلغ عني الوجيه رسالةً/ وإن كان لا تجدي إليه الرّسائل/ تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبلِ/ وذلك لما أعوزتك المآكلُ/ وما اخترت رأي الشافعي ديانة/ ولكن لأن تهوى الذي منه حاصلُ/ وعما قليل أنت لا شكّ صائرُ/ إلى مالكٍ فأفطن لما أنا قائلُ» (الأسنوي، طبقات الشافعية). وتجدر الإشارة أن الشاعر لا يقصد الإمام مالك، إنما رمى إلى معنى آخر. إن القصد مما تقدم هو خطورة زج المذاهب في الإدارة والسياسة، واتخاذها وسائل للاضطراب، حتى أُنزلت إلى ما يقبل عليها الناس، لا تديناً، كلٌ على ما يبتغي. لم نأت بهذا المقال لمجرد التاريخ إنما له صلة بحاضرنا، فتحول البعض من مذهب إلى آخر وصار محرضاً على سابقه، ولعل في نموذج الأولين كالأشعري مثلا ما أضافه المؤرخون والرواة، لكن ما سيأتي في المقال القادم أخذناه مِن أفواه المتحولين أنفسهم.