عندما أعلن الجنرال المتقاعد ألن، المسؤول عن قوات التحالف الجديد في العراق، أن الحملة على تنظيم «داعش» في الموصل ستستغرق سنة على الأقل قبل أن يبدأ مفعولها، أصدر مدير التموين في الموصل التعليمات التالية في التعامل مع خراف الذبح: «لحم الخروف للكباب، والرأس باجه، والفرو سجادة، والأحشاء سماد للزرع، والعظام تُطحن وتُستخدم علف للدجاج، وصوت الخروف نغمة للموبايل». أجل، أهل الموصل معروفون بالتدبير والاقتصاد، وإلا كيف نفسر شح الأخبار عنهم تحت ظل «داعش»، وقبل ذلك لم يكن يمر يوم دون مفخخات. ونكات الموصل أكثر جدية من ندوة «هل يمكن للعراق البقاء؟». عُقدت الندوة في «المعهد الملكي للشؤون الدولية» في لندن، والمعروف باسم «تشاتام هاوس»، ونظمها مكتب «نيويورك تايمز» في لندن، وجميع المتحدثين فيها عراقيون، وبينهم مساهمون أو شهود على كارثة إيصال العراق إلى حافة البقاء. علي علاوي أول وزير دفاع بعد الاحتلال، عند حل القوات المسلحة العراقية، ووزير المالية خلال وزارة قريبه أياد علاّوي، عندما اختفت مليارات الدولارات من أموال البلد. آخر تقرير عنها نشرته «نيويورك تايمز» قبل أيام ذكر أن نحو ملياري دولار منها، بينها 200 مليون دولار ذَهَبي هُرّبت إلى لبنان، وأُخفيت في غرفة مسلحة تحت الأرض. وتُحجمُ الـ«سي آي أي» و«وكالة التحقيقات الفدرالية» عن التحقيق في الموضوع؛ لأن «الفلوس عراقية، وسرقها عراقيون» حسب ستيوارت براون، المحقق الأميركي العام حول الموضوع. وعلاوي لم يتطرق إلى ذلك في مداخلته التي تناولت بشكل أكاديمي مواضيع، مثل أزمة العراق البنيوية، منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية، وفشل نموذج الدولة الوطنية في المنطقة. وتحدث علاوي، وهو أحد مؤلفي «البيان الشيعي» الذي صدر قبيل الاحتلال، عن رفض الطوائف العراقية الهيكلي إحداها الأخرى، وشيطنتها، واختتم كلامه بنصح الزعماء السُنة في المنطقة بالتخلي عن التفكير الراديكالي، وحذّرهم من أن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها بلدانهم لن تسمح بتحويل الاستياء العام إلى الشيعة، كما يفعلون حالياً، «وعليهم أن يَصْحوا». وبين المتحدثين في الندوة المفكر الإسلامي أنس التكريتي، الذي انفرد بالتعبير عن مشاعر حب وتعاطف مع العراقيين، «وبغداد أجمل المدن، كيف أصبحت من أكثر مدن العالم فساداً». وتساءل: لماذا نعتبر كل مشكلة العراق هي ظهور «داعش»؟ واستعاد تجربة الزرقاوي، وذكر أنه حاول آنذاك أن يشرح لأحد خبراء المخابرات الأميركية وضع شباب المنطقة الذين يلتحقون بالجماعات الإرهابية، وبعد ساعتين من الشرح، قال له الخبير الأميركي، إن كل ما يهمه هو معرفة مكان الزرقاوي، وماذا بعد ذلك؟ أجاب الأميركي «نقتله». وتساءل التكريتي كيف يمكن محاربة ناس هدفهم الأسمى أن يموتوا، وقال: «أنت تقصفهم، وهذا كل مطمحهم للحصول على متطوعين شباب عاطلين عن العمل ومُهّمشين، و(داعش) تمنحهم الفرصة للانتقام عما حلّ بهم، ولأخذ ثأر آبائهم وإخوانهم الذين قتلوا». وذكر أن بلدان المنطقة تحارب في العراق حروبها، ولا أحد منها فعل شيئاً لصالح العراق، وكل ما فعلوه أن جعلوا العراقيين عاجزين عن إيجاد البيئة للتفاهم مع شبابهم. والعراقية الوحيدة المساهمة في الندوة، وقد لا ترتاح لاعتبارها عراقية، وهي بيان سامي عبدالرحمن، ممثلة حكومة كردستان في بريطانيا. ومسألة عدم بقاء العراق محسومة بالنسبة لها. فالعراق ينبغي «تقسيمه إلى ثلاث دول تفصلها أسوار عالية جداً»، وهذا برأيها هو «الحل الذي يخرج منه الجميع منتصرين». وبين حضور الندوة الكاتب الصحفي الكردي كامران قرداغي، الذي ذكر أنه أدرك خلال عمله ثلاث سنوات رئيساً لموظفي رئاسة الجمهورية في عهد الطالباني، أن المسؤولين العراقيين ميئوس منهم، والحل الوحيد للعراق تقسيمه سلمياً. وهذه نكتة من قرداغي المشهور برواية النكات، فكردستان تحاول الانفصال عن العراق حرباً منذ نحو قرن، وحربها الحالية ضد «داعش» معركة حاسمة في حرب الانفصال الطويلة. ويعرض ذلك فيلم وثائقي مثير عرضته «بي بي سي» مؤخراً عنوانه «على جبهة كركوك». يذكر الفيلم أن قصة العراق هذا الصيف هي قصة مدينتين، فبعد الموصل غادر الجيش العراقي كركوك أيضاً، ما سمح لقوات «البيشمركة» الكردية بالسيطرة على هذه المدينة متعددة الأعراق، والغنية بالنفط، التي طالما حلم الأكراد بضمها إلى إقليم كردستان المتمتع بحكم شبه مستقل. ويعرض الفيلم الأحداث من خلال شخصية العميد سرحدْ قادر، مدير شرطة كركوك، وهو محارب قديم في «البيشمركه» عُين بعد الغزو الأميركي مسؤولاً عن شرطة كركوك، وتعرّض لأكثر من عشر محاولات اغتيال، استخدمت فيها القنابل والرصاص والسم، وقُتل فيها 245 شرطياً من وحدته، بينهم شقيقه. ويتضمن الفيلم مشاهد من مفاوضات يجريها سَرحَدْ مع شيوخ عشائر عربية في كركوك، يملكون صلة بـ«داعش». وتدعم المشاهدُ التصورات حول تواطؤ الكرد مع «داعش»، وهو، إذا شئنا تواطؤ «طبيعي». فـ«البيشمركة» تمّرست في حروب طويلة، ومساومات، واتفاقات مع الجيش العراقي، وأحداث تلك الحروب مدرسة تاريخية، ليس في القتال فحسب، بل في السياسة أيضاً، وهذا أعقد ما فيها، ولا يمكن إدراك مساوماتها وتشابكاتها وتناقضاتها دون علم السوسيولوجيا، كما أسسه ابن خلدون، الذي خاض غمار الحروب والصفقات والمساومات بين الممالك والقبائل والبدو والحضر. و«داعش» وأسلافها مثل «قَدَرْ» في نكتة مشهورة عن سائق تاكسي كردي انفجر إطار عجلة سيارته، فقال الركاب «قَدَرْ». وبعد ساعة صدمتهم سيارة أخرى، وقال الركاب «قَدَرْ»، ثمّ انفجرت بهم عبوة فصاح الركاب «قَدَرْ». فغادر السائق الكردي السيارة، وقال «إذا قَدَرْ ما يترك السيارة ما أسوق بعد». وهل غير «قَدَرْ» وراء «جهادي كردي من حلبجة يقود هجوم داعش على كوباني»؟ هذا عنوان تقرير صحيفة عربية تصدر في لندن، وهو حافل بمعلومات عن مقاتلين أكراد في صفوف «داعش»، التي يقود عملياتها في كوباني مقاتل كردي اسمه خطاب. ومن النكات التي لا يرويها قرداغي، وأرويها هنا على راحتي، أن الرئيس الطالباني أرسله لتفقد عملية إسعاف السفير الصيني، الذي أصيب بحادث انفجار عبوة ناسفة، فهرع قرداغي إلى موقع الحادث، وانحنى ينقل للسفير تحية الطالباني، فأخذ السفير يردد بانفعال: «شن شان شو شي شا». واعتقد قرداغي أنها رسالة مهمة للطالباني فقرّب المسجل من فم السفير الذي ظل يردد العبارة حتى توقفت أنفاسه. وهُرع قرداغي حال عودته إلى ديوان الرئاسة لترجمة الرسالة، وظهر أن السفير الصيني كان يردد عبارة «أرجوك ارفع قدمك عن أنبوب الأوكسجين راح اختنق وأموت. فـ«شن شان شو شي شا» يا عراق!