استمعتُ قبل أسبوع ببيروت إلى محادثة نزاعية بين طالب يمني وطالبة يمنية أيضاً بشأن الأزمة ببلادهما. الطالبة جنوبية تُحضّر للدكتوراه في علم الاجتماع. والطالب زيدي غير حوثي، لكنه يميل للحوثيين. الطالبة تريد الانفصال عن اليمن الشمالي، والعودة إلى دولة ما قبل عام 1989. وهي شديدة الحقد على الرئيس السابق «صالح»، وعلى الذين أغراهم بالتوحد مع الشمال وضمنهم علي سالم البيض، وعبدربه منصور هادي. وكررت في حديثها تعبير: مظالم الإنسان الجنوبي! أما طالب الماجستير في العلوم السياسية؛ فلا يريد الانفصال، بل الانتقام من مظالم الجمهورية العلمانية، وأخذ نصف السلطة على الأقل. أعرفُ اليمن منذ قرابة الثلاثين عاماً. وقد درّسْتُ بجامعة صنعاء سنتين، وشهدْتُ تحقُّق الوحدة. ورأيتُ الطلاب الجنوبيين آتين لجامعة صنعاء، وكان أكثرهم يشعرون بالراحة والفرحة. ومع ذلك فإن فئة منهم كانت آسية على مصائر عبد الفتاح إسماعيل، وغاضبة من دونية البيض وعلي ناصر محمد والعطّاس. وكانوا جميعاً يقولون إنه لو لم يكن للوحدة فضيلة غير التخلص من اقتتال الرفاق الاشتراكيين، لكان ذلك كافياً. كل ذلك نسيته الطالبة الآن، وما عادت تذكر غير مظالم «الإنسان الجنوبي». أما الطالب الزيدي فلا يذكر غير تجاوزات السلفيين وفساد «صالح» وتحالفاته مع آل الأحمر و«الإصلاح»! كنتُ أعرفُ إحباط الشبان الزيود منذ أواسط التسعينيات، وكنت أُتابعُ تربيتهم الجديدة في إيران ولدى «حزب الله» بلبنان. وما استطاع «حزب الحق» الذي أنشأهُ أحمد الشامي إرضاء طموحاتهم، فالتفوا بالتدريج حول الشاب حسين الحوثي، ابن بدر الدين الحوثي، الفقيه المتشدد الذي توفي عام 2010. وقد سمى حسين (كان عضواً بالبرلمان اليمني) جماعته «الشباب المؤمن»، وبعد مقتله عام 2004 مضى أخوه عبد الملك إلى تسمية «أنصار الله» ائتماماً بـ«حزب الله». وبعد ست حروب مع الجيش اليمني، دخل في برنامجهم عام 2010 موضوع الانفصال بدولة زيدية إمامية. وبالطبع فإن الأحقاد بين اليمنيين ليست هي التي تقرر مصائر الجمهورية. لكني كنتُ أعتقد أن الجيش اليمني متماسك ويمكنه الحفاظ على اليمن واحداً، ولو في نظام فيدرالي واسع. وهذا الاحتمال ما يزالُ وارداً. فالجيش اليمني لم يتفكك نتيجة الحروب، كما جرى للجيش العراقي الذي ألغاه الأميركيون بالقوة. فالذي حصل أن المبادرة الخليجية التي أقْصت «صالح»، وأعطتْه ضمانات قانونية، ما سلبتْهُ قوته ولا ثروته وتحالفاته القَبَلية، ومواقعه في البرلمان والحكومة. وما نُفِّذ البند الثاني في المبادرة والذي يقضي بإعادة هيكلة الجيش والقوى الأمنية. فبقيت عدةُ فِرَق بالجيش بضباطها المُوالين لصالح. بينما اعتصم أنصارُ «الإصلاح» وآل الأحمر في الفرقة الأُولى بقيادة علي محسن الأحمر، أخو صالح لأُمه، وعدوّه اللدود مع آل الأحمر المتحالفين مع «الإخوان». أما فرق الجيش اليمني الأخرى فذهبت لمقاتلة «القاعدة» أو للتمركز في الجنوب. وحتى اللواء العاشر المتمركز بالحديدة هو أصلا من الحرس الجمهوري الموالي لصالح. وفي أواسط عام 2013، وتحت وطأة ازدياد أحقاد صالح على النظام الانتقالي الذي أنجز الحوار الوطني، قرر التحالُفَ مع الحوثيين لهدْم النظام الذي أوشك أن ينجح، والعودة لحكم اليمن. وتواصل حتى مع الجنوبيين من أهل الحِراك، ووعدهم بالاستقلال إن عاد للسلطة، لكنهم لم يثقوا به وطردوا ممثليه! والذي أذهبُ إليه أن اليمن سائر باتجاه نزاع داخلي طويل لا يحسمه طرف وحده، بجيش وبدون جيش. وإذا كان المدنيون الجنوبيون على هذا الحقد، فلا شك أن العسكريين ذوي الأصول الجنوبية يملكون أحاسيس مشابهة، وهم يستطيعون التجمع في الجنوب ولن يتبعهم أحد إلى هناك لفرض استمرار الوحدة عليهم. الحرب الأهلية التي تكلّف كثيراً ستجري في الشمال بين الحوثيين وبقايا الجيش الشمالي، والمسلحين الآخرين من القبائل. فهؤلاء لن يقبلوا سيطرة الحوثيين ولو بقيت الجمهورية شكلا. وسيتركز النزاع على صنعاء عاصمة الدولة الحالية. فحتى الحديدة لا يملك الحوثيون زيوداً بين سكانها. وقد بدأ هذا السيناريو يتبلور في أن اللواء العسكري بمدينة تعز أعلن أنه سيقاتل الحوثيين إن اقتربوا منها. بل ولا نعرفُ خفايا الاتفاق بين صالح والحوثيين؛ فقد بقيت الفرق العسكرية الموالية لصالح على الحياد في صنعاء والحديدة. لكن إذا تبين لصالح أنهم لا يريدون إعادته للسلطة، فهل ستبقى تلك القوات على الحياد؟ أما احتمال انسحاب الحوثيين من صنعاء لإنشاء الدولة بصعدة، فهو احتمال بعيد، لأن صنعاء كانت في أكثر عصورها عاصمة دولة الإمامة الزيدية؛ ففكرتهم عنها مثل فكرة الأكراد عن كركوك، لذلك سيظلون يقاتلون فيها باعتبارها حقاً لهم. لكن؛ أين الدولة اليمنية؟ وأين «الإخوان»؟ وأين القبائل؟ لقد قال كثيرٌ من المحللين إن القبائل واقفة على قارعة الطريق، ومهيئة لتأييد من يدفع أكثر. وهذا غير صحيح. فهناك قبائل كبرى غير زيدية. وهناك قبائل كبرى مسها شُواظُ «القاعدة». وهذا كله يجعل من الحوثيين قوة واحدة بين قوى أُخرى لا تقل عنها شدة حتى لو امتلكوا أسحلة ثقيلة، ولو ساعدتهم إيران. وموقف «الإخوان» غريب تماماً. صحيح أنهم اعتمدوا على فرقة علي محسن الأحمر. لكنهم يمتلكون ميليشيا من القبائل، وميليشيا أخرى خاصة. فهل بينهم وبين الحوثيين اتفاق من نوع ما أيضاً، بدليل أنهم ما احتجوا إلا مرة واحدة في تصريح ضعيف، لأن اتفاق المصالحة والشراكة لم يُنفَّذْ! لابد من الانتظار لنعرف أين هم «الإخوان»، وإين هم السلفيون بعد خروجهم من دماج مقتولين ومهجَّرين قبل عام ونيف. أما الدولة اليمنية أو الجهاز الضخم الذي كان محيطاً بصالح، ونصفه الآن محيط بعبدربه هادي؛ فموقفها هو المجهول الأكبر والأغرب. فالجهاز الإداري والأمني نصفُهُ ما عاد موالياً لصالح، فلماذا طلب إليه هادي أن لا يتحرك وأن يسلِّم للحوثيين؟ الجيش اليمني كان منقسماً، والميليشيات الأُخرى كانت حاضرة؛ فلماذا لم تفعل شيئاً ولو شكلياً؟ الذي أراه أن الدولة العربية عموماً هشة، ولنذكر ماذا حصل للقوى الأمنية بمصر وتونس والعراق وسوريا وليبيا. كل ميليشيا منظمة تستطيع فعل أي شيء، وإلا فكيف احتلت «داعش» ثلث العراق في ثلاثة أيام؟! إن النزاع الداخلي باليمن واقع ومتفاقم. وانفصال الجنوب ممكن. أما الدولة اليمنية فيحتاج سقوطها إلى قرارٍ خارجي.