تبدأ اليوم في أبوظبي فعاليات منتدى جريدة «الاتحاد» التاسع بمشاركة كتاب الجريدة وصفوة من خيرة المفكرين العرب والدوليين الذين عهدنا، في المواضيع المختلفة التي يتطرقون إليها كل سنة، قوة الفكر وصدق الاجتهاد العلمي والأكاديمي والنقدي والاستشرافي المبدع، واقفين دائماً موقف العلم الصحيح الذي لا تطاله اعتبارات السياسة كسياسة، بل السياسة كعلم، ومنطلقين من مبدأ أن أحوال الوطن العربي هي منبع أملنا ومصدر قلقنا وجوهر همنا.. والموضوع الذي اختاره المنظمون هذه السنة هو عن «الإرهاب من جديد». نعم إنه الإرهاب. هذا التيار الظلامي العجيب الذي يغلق نفسه على نفسه، في عيش مستمر في الخيالات والأوهام، يمنع أتباعه من أي فهم صحيح أو صائب أو شرح سليم، ويقدم نفسه ضمن موجات غوغائية على أنه وحده هو الأمل والخلاص والنجاح فيبيح قطع الرؤوس وتقتيل الأنفس واستحياء الأطفال والنساء... والإرهابيون «الداعشيون» و«القاعديون» وغيرهم يعتبرون المجتمع المعاصر كله مجتمعاً «جاهلياً»، ينبغي الانقضاض عليه لهدمه وتخريبه وعدم مهادنته أو العيش فيه أو حتى مسايرته ومتابعته، فلا يوجد حسب مقولاتهم ومفاهيمهم إلا «حزب الله» - وحاشى أن يكونوا هم حزب الله- وهو الحزب الذي يضم قادة ومريدي هذا التيار، وهناك حسب زعمهم «حزب الشيطان» وهو الحزب الذي يجمع بين دفتيه من عداهم في العالم أجمع! وعلى الحزب الأول أن يعلن «الجهاد المقدس» والحرب الضروس على «حزب الشيطان»! أي على العالم حتى يقضي عليه، وحتى تعود «الحاكمية»، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. إن الحكم لله أبداً والحاكمية لله دوماً، ولكن كما يكتب أحدهم بصدق ليس بالفهم الذي يدعيه أمثالهم من الخوارج، ولا بالمنطق الذي يزعمونه، ولا بالأسلوب الذي يريدون فرضه لأن مثل هذا الأسلوب وذاك المنطق والفهم يسقط التكليف الإلهي ويلغي الإرادة الإنسانية، ويجعل من عقاب البغاة عبثاً كما يجعل من حساب الآخرة لغواً، وفيم سيكون العقاب ولمَ يكون الحساب إذا كان الإنسان سليم الإرادة لا يفعل أو كان عديم الفعل لا يحكم؟ وهذا الشعار بهذا الفهم وبهذا المنطق وبهذا الأسلوب الذي يفهمه هؤلاء الإرهابيون ومن قبلهم الخوارج أقرب ما يكون إلى منطق مجرم كان يحاكم أمام إحدى المحاكم الجنائية متهماً بقتل بريء، فلما سأله القاضي عن التهمة أجاب بأنه لم يقتله ولكن الله قتله! وإذا استوضحه أكثر أجاب: لو لم يشأ الله قتله ما استطعت أن أقتله، وما كنت أنا إلا أداة الله فيما أراد!.. هكذا يفكر «الداعشيون» وقبلهم «القاعدة»، لا يجادلون بالعقل وإنما بالجهل ويرفعون عصا الاغتيال والتهديد، لسان حالهم الجاهلي يقول: من ليس معنا فهو علينا، ومن لم يتبع منطقنا فلا منطق له، ومن لا يؤمن بأهدافنا فهو آثم باغٍ، ومن يقف في طريقنا فهو «كافر مرتد»! ومما يزيد الطين بلة أن الإرهاب في وطننا العربي عبارة عن موجات لا تنتهي ودائماً ما تظهر على شكل فقاقيع باسم الدين تأخذ أسماء مختلفة: «القاعدة»، و«داعش» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام» و«أنصار الشريعة»، وهي كلها خوارج أصحابها يخرجون على روح الإسلام، يتلاعبون بالألفاظ ويتماحكون بالعبارات ويستغلون الدين في تحقيق أطماع سياسية ويستعملون الشريعة السمحة للوصول إلى أهداف لا معقولة. بدأ تاريخ الحرب الدولية على الإرهاب مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ثم هذه بدأت الحرب من جديد بعد أن اهتز العالم بخبر ذبح «داعش» للصحفي الأميركي جيمس فاولي وغيره، وبين المدتين شهد العالم فصولاً من الحرب والكر والفر ضد جماعات متفردة لا وطن لها ولا ملة، واستخدمت خلالها كل أنواع العتاد العسكري، والحجوز على الحسابات البنكية والملاحقات البوليسيية الدولية والتحفيزات المالية... والعديد من أعضاء «طالبان» وتنظيم «القاعدة» اعتقلوا أو قتلوا أو أصبحوا معوقين... ولكن فكرة «القاعدة» لم تمت وظلت فكرة الغلو والتطرف الديني هي المغناطيس الذي يجذب ويُلهم أبناء العرب والمسلمين، وهي التي ولدت المدعو «البغدادي» زعيماً لـ«داعش» كما كان في وقته بن لادن زعيماً لـ«القاعدة». إن الحرب ضد الإرهاب هي حرب غير كلاسيكية لأنك لا تحارب بلداناً أو بلداً معيناً أو فئات في منطقة محددة محكومة بالجغرافيا البرية والجوية والبحرية، وإنما هي حرب ضد أفكار خطيرة تضع للانتهازية عنواناً من الدين، وتقدم للذبح والاعتداء على الأرواح والأموال تبريرات الدين منها براء. إن هذا التطرف المولّد للإرهاب بكل أشكاله هو فيروس خطير يفتك بالأمة العربية والكثير من الدول الأخرى، ولا تكفي إزالة أجنحة الفيروس بل يجب القضاء عليه من جذوره... كما أن الجماعات الإرهابية مثل «القاعدة» و«داعش» ليست خطراً على أميركا والغرب فحسب، وإنما هي خطر، أولاً وأخيراً، علينا نحن، ومعظم ضحايا إرهابها مسلمون... وبالتالي فإن الرهان في الحرب الحقيقية على الإرهاب يقع على كاهل حكوماتنا ومثقفينا، ومن هنا أهمية اللقاء الذي يبدأ اليوم في العاصمة أبوظبي. يجب تطويق الفكرة «القاعدية» و«الداعشية» وخنقها، إيديولوجياً وعلمياً وفكرياً ومالياً وإعلامياً، بمعنى أننا بهذا الاتجاه سنكف عن إلقاء التهم على الآخرين وسنعترف بمشكلة التطرف التي ولدت في الوطن العربي والإسلامي... إن الحل يبدأ من أوطاننا ومؤسساتنا ومثقفينا في عمل مستمر، وكدح دؤوب، ووعي دائم ورؤية نافذة لحماية العقول من الفكر «الداعشي» ودحر العقول المريضة التي تجعل من الإسلام (في فهمها الخاطئ) حرباً على المجتمعات الوطنية والمجتمع الدولي، ولله الأمر من قبل ومن بعد.