في الوقت الذي تخطى فيه عدد المصابين بفيروس إيبولا الحالي، عشرة آلاف شخص، لقي أكثر من نصفهم حتفهم - حسب أكثر التقديرات تفاؤلاً- يعود هذا الفيروس الخطير ليقدم لنا دروساً وعبراً مهمة في الصحة العامة الدولية، تناساها المجتمع الدولي أحياناً، أو تجاهلها عن عمد أحياناً أخرى. وأول هذه الدروس هو أن التطعيمات تشكل خط الدفاع الوحيد، والأكثر فعالية، في مواجهة الفيروسات، التي تعتبر أخطر الكائنات الحية التي تهدد بقاء الجنس البشري، في ظل عدم وجود علاج فعال ضد الغالبية العظمى منها، وإن وجد، فهو غالباً باهظ الثمن. وهذا الدرس، على رغم أن عمره يعود لعقود طويلة، حيث تعتبر التطعيمات أحد أهم الاختراقات في تاريخ الطب الحديث على الإطلاق، بسبب دورها في إنقاذ الملايين من البشر سنوياً، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت هجوماً وتشكيكاً في هذه المعجزة الطبية، وتراجعاً في ميزانيات البحث العلمي الهادفة لتطوير تطعيمات ضد الأمراض التي تصيب الفقراء. وأمراض الفقراء تلك، وبالتحديد ضرورة عدم تجاهلها، تشكل الدرس الثاني المستفاد من وباء إيبولا الأخير. من أن 80 في المئة من ميزانيات البحوث الطبية، وخصوصاً في مجال ابتكار تطعيمات وأدوية وعقاقير جديدة، تذهب لأمراض تصيب 20 في المئة من أفراد الجنس البشري، هي نسبة سكان العالم الأغنياء، بينما نجد أن الأمراض التي تنتشر بشكل خاص بين الفقراء، وتصيب 80 في المئة من أفراد الجنس البشري، تخصص لها 20 في المئة فقط من ميزانيات البحوث الطبية. والمنطق خلف ذلك سهل وبسيط، حيث يمكن لعقار أو دواء، يعالج مرضاً ينتشر بين الأغنياء، أن يباع بأسعار مرتفعة، يستطيع تحملها الأغنياء، وبالتالي يمكن للشركة المطورة للعقار أن تستعيد استثماراتها بسهولة، وأن تحقق أرباحاً تبلغ المليارات أحياناً. وعلى النقيض من ذلك، من وجهة نظر المستثمرين، ماذا يفيد عقار أو دواء اكتشف لعلاج الفقراء؟ لا يمكن تحقيق ربح من خلفه، أو حتى تحصيل كامل ثمنه؟ وهذا المنطق المقلوب، لا يمكن أن نلوم فيه شركات الأدوية، أو المستثمرين من خلفهم، فهو نتاج الفقر الذي يضرب العديد من دول العالم، بسبب فقدان عدالة توزيع الثروات بين الأمم والشعوب، وحتى أحياناً داخل طبقات المجتمع الواحد. وتنطبق هذه الحالة إلى حد كبير على فيروس إيبولا، المعروف لدى المجتمع الطبي منذ ظهر أول وباء له عام 1976 في زائير، والتي تعرف حالياً بجمهورية الكونغو الديمقراطية. وعلى رغم التواتر المستمر لأوبئة الفيروس بعد ذلك، في دول وسط القارة الأفريقية، من الشرق إلى الغرب، مثل ساحل العاج، والسودان، فلم يعره المجتمع الطبي الغربي من الاهتمام ما يستحق، بناء على أنه أحد تلك الأمراض التي تصيب الشعوب الفقيرة في دول القارة السمراء. إلا أن ضراوة الوباء الأخير، واحتمال انتقاله إلى الدول الغربية وأميركا الشمالية، وانتقاله بالفعل إلى الولايات المتحدة، وإسبانيا، كان بمثابة جرس إنذار للعالم الغربي. ويعود السبب في نيل إيبولا هذا الاهتمام العالمي، وفي تغيير العقلية، وتبدل التفكير السابق -ولو مؤقتاً- بأن أمراض الفقراء هي للفقراء، إلى ظاهرة العولمة، وسهولة الانتقال والسفر بين الدول والبلدان، والدور الذي يلعبه ذلك في انتشار الأمراض والأوبئة بين قارات ومناطق العالم المختلفة والمتباعدة. وهذا الجانب السلبي للعولمة دفع بمنظمة الصحة العالمية إلى إصدار تقرير خاص بعنوان «الأمن الصحي العالمي». وبخلاف كون التقرير يطرح مفهوماً جديداً، متمثلاً في الأمن الصحي العالمي، وبشكل مماثل لمفاهيم الأمن السياسي، والاقتصادي، والغذائي، فهو يلقي الضوء أيضاً على جوانب العلاقة بين تصاعد ظاهرة العولمة وتزايد انتشار الأمراض والأوبئة. فالعولمة بطبيعتها، تعتمد على زيادة حركة البضائع والأشخاص بين مناطق ودول العالم المختلفة، وهو ما يسهل بدوره أيضاً انتقال الجراثيم والميكروبات بين تلك المناطق والدول. فعلى مدى التاريخ، دائماً ما حقق تباعد المسافات، ووجود العوائق الجغرافية من جبال ومحيطات، نوعاً من الحجر الصحي الطبيعي، عمل على بقاء الأمراض والأوبئة في نطاق محلي في كثير من الأوقات. ولكن في زمن العولمة، تلاشت المسافات، واختفت العوائق الجغرافية، وأصبحت الأوبئة منذ لحظة ولادتها، دولية الصفة وعالمية المخاطر. ? وبشكل تلقائي، ينقلنا هذا الدرس -المعروف سابقاً- إلى الدرس الأخير في هذا المقال، ألا وهو أهمية المنظمات الصحية الدولية في مكافحة الأمراض والأوبئة في العصر الحديث. فمما لا يصدقه عقل، أن في وقت بدايات وباء إيبولا الحالي، كانت تدور مناقشات، أيدها البعض -وخصوصا من جانب الولايات المتحدة- بضرورة خفض ميزانية منظمة الصحة العالمية. وهذا الاتجاه، هو امتداد لنظرة العداء المتأصلة في فلسفة اليمين السياسي الأميركي تجاه الأمم المتحدة بجميع منظماتها، وهو العداء الناتج عن موقف المنظمة الدولية المنصف -نوعاً ما- تجاه القضية الفلسطينية، والذي استشرى وقت الغزو الأميركي للعراق، في ظل إصرار مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة، وعلى رأسهم «هانز بليكس»، على عدم وجود مثل تلك الأسلحة. والآن، تهرع الولايات المتحدة بالمال والعتاد، لتلقي بهما أمام قدمي منظمة الصحة العالمية، بعد أن أمسك الفزع والرعب بالشعب الأميركي، بعد وصول فيروس إيبولا إلى الأراضي الأميركية نفسها.