في أعقاب المذبحة البشعة التي راح ضحيتها واحد وعشرون مصرياً، لا ذنب لهم سوى السعي إلى الرزق الحلال، وجه الرئيس المصري ضربته الجوية إلى قواعد تنظيم «داعش» الذي أقدم على هذه الجريمة النكراء وكلّف وزير خارجيته في الوقت نفسه بالسفر إلى نيويورك لكي يسعى إلى حشد تأييد دولي لمثل هذه الضربات باستصدار قرار من مجلس الأمن يوفر غطاءً شرعياً لها ويرفع الحظر على توريد السلاح للجيش الليبي الشرعي. لكن المسعى المصري أخفق حتى الآن، وأحد الأسباب الأساسية لهذا الإخفاق هو الموقف الأميركي، ومن ورائه كالعادة الموقف البريطاني. دانت الإدارة الأميركية المذبحة، وقامت بتعزية السلطات المصرية في مصابها، غير أن الولايات المتحدة -ومن خلفها القوى الغربية- ليست بصدد التحرك في أي وقت قريب، وفقاً لأحد المصادر الغربية المطلعة، نحو تحقيق أي من المطالب المصرية. ويضيف المصدر أن ما سمعه وزير الخارجية المصري في نيويورك كان متوقعاً، خاصة أن الرئيس المصري قد استمع في الأيام التي تواكبت مع المسعى المصري من مسؤولين غربيين إلى ما يفيد بأن التفهم الغربي لحق مصر في القيام بتحرك منسق مع حكومة طبرق بعد الإعدام الوحشي للعمال المصريين لن يتحول لتغيير في الديناميكية السياسية الدولية إزاء التعامل مع ليبيا، واقتصرت التصريحات الأميركية بشأن الموقف على أن «داعش» شريرة، وأن مصر يمكن أن تكون شريكاً في مسعى القضاء على الإرهاب، وأن الولايات المتحدة ملتزمة بالشراكة الاستراتيجية معها، وتؤكد أهمية التعاون بين الجانبين لمساندة الشعب الليبي على مواجهة التهديدات الإرهابية ودعم حكومة ليبية موحدة. وأضافت المصادر البريطانية أن ليبيا بحاجة إلى حكومة موحدة قبل أن يكون بإمكان مجلس الأمن رفع الحظر على السلاح من أجل تجهيز الجيش الليبي على نحو أفضل لمواجهة «داعش». تعيدنا هذه المواقف الأميركية والغربية «الحكيمة» مجدداً إلى ظاهرة المعايير المزدوجة التي تميز سلوك الولايات المتحدة وبالذات تجاه قضايانا العربية منذ زمن، فـ«داعش» التي ضربت القوات المصرية قواعدها في ليبيا بتنسيق مع الحكومة الشرعية فيها هي نفسها «داعش» التي يضربها سلاح الجو الأميركي في العراق بتنسيق مع الحكومة الشرعية في العراق ودون تنسيق مع الحكومة القائمة في سوريا، وقد سبق للولايات المتحدة أن قامت بغزو العراق في 2003 دون تفويض دولي، وهو الغزو الذي مازلنا نعاني تداعياته حتى الآن، سواء تمثلت في تمزيق العراق أو إخضاعه للنفوذ الإيراني، كما أن الولايات المتحدة دأبت منذ أعلنت حربها على الإرهاب بعد أحداث سبتمبر 2001 على مهاجمة أهداف في اليمن تقول دائماً إنها تابعة لـ«القاعدة»، فيما يتضح في كثير من الأحيان أنها مواكب عرس أو تشييع جثامين إلى مثواها الأخير. وبعبارة أخرى، فإنه إذا كانت مصر تطلب أمراً إداً فإن الولايات المتحدة فعلته وتفعله حتى الآن، ناهيك عن سجلها في فيتنام وحمايتها اللصيقة لكل ما ترتكبه إسرائيل من جرائم بحق الشعب الفلسطيني، ويدعو هذا إلى التساؤل عن أسباب التضارب في الموقف الأميركي، والواقع أن المرء لا يستطيع أن ينحي جانباً الفكرة المنتشرة والمتمثلة في أن السبب الأصيل في هذا السلوك المزدوج هو أن الولايات المتحدة مهتمة للغاية بإعادة رسم خريطة المنطقة على النحو الذي يتفق وتصورها الاستراتيجي الخاص بشرق أوسط جديد يريحها من عبء العروبة وتداعياتها السلبية على مصالحها إلى الأبد، وهو تصور يلازمنا منذ مشروع قيادة الشرق الأوسط في مطلع خمسينيات القرن الماضي. والمشكلة أن الإدارة الأميركية الحالية ترى في «الإخوان المسلمين» شريكاً رئيساً في هذا المشروع، ولذلك فهي تتخذ ما تتخذه الآن من مواقف مائعة تجاه التهديدات الإرهابية التي يقفون وراءها في مصر وغيرها ولا تريد أن ترى سياسة أو قراراً أو عملاً في ليبيا من شأنه أن يقوض فرصهم في الحكم، وهذا فضلاً عما تردده من أنها لم تكن مستريحة لعدم استئذان مصر قبل توجيه ضربة لقواعد «داعش»، بما ينذر بصعود فاعل إقليمي قوي ومستقل قد يكون حجر عثرة أمام المشروع الأميركي في المنطقة. لا تملك مصر رغم ذلك كله سوى أن تحافظ على أمنها وأمن أبنائها بالطريقة التي تتناسب مع جرائم الإرهاب التي باتت تهدد الجميع.