المأساة لم تكن في إنكار أحد الدعاة دوران الأرض، وتأكيده عبر كوب ماء صغير على أنها ثابتة لا تتحرك، وهو الحدث الذي ذاع خبره في أنحاء العالم كطرفة مسلّية، إثر نشر فيديو للداعية وهو يرد على سؤال حول ذلك أثناء محاضرة له. المأساة الحقيقية كانت في حجج المنافحين عن الداعية، ولا أعني هنا الذين ساقوا ما اعتبروه أدلة شرعية على ثبات الأرض، فهذه قصة محزنة أخرى، وإنما الذين انطلقوا في دفاعهم من منطلق أن الداعية حرٌ في رأيه، وأننا لن نرتقي إلا إذا احترمنا آراء بعضنا بعضاً! المأساة أننا ما زلنا نخلط بين الرأي والمعلومة، حتى بات من واجب وزارات التعليم تعليق تعليم العلوم والمعارف والتركيز فقط على تعليم ألف باء التفكير، إذ ما الفائدة من حشو الأدمغة بمعلومات ثم ترك الآراء لتسرح وتمرح بها وتسوقها إلى حيث شاءت؟ وبات من الضروري أن نعلق لافتات كبيرة في الشوارع تشرح البديهيات، فالمعلومة تقول: إن السراب ينشأ عن انحناء أشعة الشمس أثناء عبورها طبقات الهواء الساخنة القريبة من سطح الأرض، والرأي قد يقول: إن الدنيا في نظر الإنسان مثل السراب في نظر الظمآن، وقد لا يقول، أما من يقول: إن السراب ينشأ أمام عين الإنسان نتيجة تصاعد الأبخرة من أنفه، فمكانه مستشفى المجانين ليدلي هناك برأيه بحرية، وسيجد حتماً أشخاصاً يحترمون رأيه. والحديث هنا ليس عن فئة قليلة لا تخلو منهم أمة أو مجتمع، بل يمكن القول إن هناك جمهوراً عريضاً يعتقد أن الرأي كالمعلومة، لا فرق بينهما، ويتعامل مع الآخرين على ضوء ذلك، فكما تطلب مني أن أحترم معلومتك التي تقول إن الأسد حيوان مفترس يعيش في البراري، عليك في المقابل أن تحترم رأيي الذي يقول إن الأسد طائر جميل ينشد أعذب الألحان من فوق الأغصان. وما هذه القضية سوى نموذج لإنكار الحقائق بخاطر أو انطباع أو إحساس أو استنتاج أو رأي. يحدث هذا في مختلف مجالات الفكر والمعرفة، ففي التاريخ مثلاً، نحن لا نختلف فحسب بشأن تفسير أحداثه وشخصياته، فيقول بعضنا إن فلاناً اغتيل نتيجة خلاف سياسي، وبعضنا الآخر يقول: إنه هلك حتف أنفه، بل نحن نختلف في كون فلاناً هذا قد وُجد أم لم يوجد في يوم من الأيام، ويصبح «الحوار» حول موته ضرباً من العبث. هكذا سنظل نتخبط في كل شيء، ففضلا عن عدم اتفاقنا على أبسط القضايا الإنسانية، فنحن نختلف حول المعلومات الأساسية التي لا يمكن من دونها أن نتقدم خطوة واحدة بين الأمم. وكم كان مؤلماً التعليق الذي وضعه شخص يبدو أنه غربي على خبر الداعية الذي أثبت ثبات الأرض بكوب ماء، والمنشور في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، حين قال إن هذا يفسّر سبب سهولة سلب النفط من بعضهم!