«تحلّلوا من الديون»!.. هذه نصيحة السومريين والبابليين لليونانيين، فأجدادنا كانوا يعرفون قبل أربعة آلاف عام أن الديون ينبغي أن تُعفى دورياً، لأن حجم الديون يتجاوز حجم الاقتصاد الحقيقي، وكان الفكر الاقتصادي لبلاد ما بين النهرين قائماً على أساس رياضي أكثر واقعية من الفكر الاقتصادي الحالي، وكانوا يدركون أن وطأة الغرق في الديون تستفحل، وتميل إلى تجاوز القدرة على الإيفاء، وتنتهي بتمركز ملكية العقارات بيد المُقرِضين. ذكر ذلك مايكل هدسن، وهو أستاذ متميز في «جامعة ميسوري»، ومستشار سابق لحكومات الولايات المتحدة، وكندا، والمكسيك، وللأمم المتحدة، وسبق له العمل في مصرف «تشيس مانهاتن» في وول ستريت، ويُعتبرُ من مؤسسي صناديق الإقراض السيادية. ويُشيد هدسن بالحكمة الاقتصادية للسومريين والبابليين، الذين كانوا يقيمون احتفالات عامة «يوبيلية» للإعفاء من الديون، «لأن الناس سيلجأون حتماً إلى إنكار الديون، إذا لم تضمن «اليوبيلات» إعفاء الديون بشكل طوعي، فالديون تنمو في جميع البلدان عبر التاريخ بشكل أسيّ (متضاعف)، فيما بقية الاقتصاد، أو «الاقتصاد الحقيقي»، ينمو بشكل لولبي. وأدرك البابليون، الذين أسّسوا علم الرياضيات كيف تجعل الفوائد المركبة الديون غير قابلة للسداد في النهاية، مهما كان معدل الفائدة، فالدين بفائدة 5 بالمائة يتضاعف مرتين خلال 14 عاماً، والدين بفائدة 7 بالمائة يتضاعف مرتين خلال 10 سنوات. والرقيمات الطينية، التي كانوا يستخدمونها كالورق تتضمن تمارين على حساب كيف تتضاعف أصول الديون ضعفين في خمس سنوات، وفق معدلات تعادل آنذاك 20 في المائة سنوياً. ويسُألُ التلميذ البابلي: «كم يستغرق الدين كي يتضاعف 64 مرة»، وجوابه: «30 عاماً». ولم يستمر أيُّ اقتصاد بالتضاعف بصورة ثابتة، فالديون تنمو وفق مبادئ رياضية بحتة، لكن الاقتصادات تدور كمنحنيات حرف S الإنجليزي، وهذا ما عرفه أيضاً البابليون، وسجّلوا في حساباتهم تناقص قطعان الماشية تدريجياً. والسبب الرئيس لتباطؤ نمو الاقتصادات العامة حالياً هو الدفوعات المتزايدة لوفاء الديون التي تواصل التراكم، ومع تناقص الريع المتحصل للاستثمار في تكوين رأس المال، وتأمين ارتفاع مستويات المعيشة، تنتهي دفوعات الفوائد بالاقتصادات إلى الركود، وفي القرن الماضي كانت كل دورة في العقارات تستغرق عادة 18 عاماً. «قَتْلُ المضيف: الطفيليات المالية وعبودية الديون التي تدمر الاقتصاد العالمي»، عنوان أحدث كتب هدسن، وفيه يشرح كيف صوّر القطاع المالي نفسه كجزء من الاقتصاد الإنتاجي، مع أن البنوك كانت تعتبر عبر القرون طفيلية. «وجوهرها الطفيلي ليس فقط استنزاف قوت المضيف، بل أيضاً تبليد دماغ المضيف، كي لا يدرك وجود الطفيلي. وهذا هو الضلال الذي تعانيه معظم أوروبا والولايات المتحدة»، ويهدف هدسن في كتابه إلى استبدال اقتصادات لا قيمة لها باقتصادات قائمة على الواقع، «فالأزمات ستستمر ما لم نحوِّل بشكل جذري هياكلنا الاقتصادية والسياسية، ونسترجع أفضل الأفكار الاقتصادية الكلاسيكية». وعندما يدعمُ اثنان من أبرز حملة «نوبل» بالاقتصاد موقفَ اليونان، ينبغي على العالم أن يصغي. «جوزيف ستيغليتز» كتب مقالة عنوانها، «لا يمكن الاستمرار في جنون أوروبا الاقتصادي»، ذكر فيها أن المشكلة ليست اليونان، بل أوروبا التي ينبغي عليها إلغاء التقشف. و«بول كروجمان» اعتبر «فائض دخل حكومة اليونان الذي تسدد به الدين في ظرف الكساد الاقتصادي الحالي إنجازاً بحد ذاته»، وذكر أن حملة التخويف الإعلامية ضد حكومة «سيريزا» اليسارية لا تقلقه، بل يقلقه أن لا تكون خططها راديكالية بما فيه الكفاية. وتساءل: كروجمان بصدد طلب أوروبا من اليونان ملاحقة المتهربين من الضرائب: «هل يتوقع أحدٌ أن لا يلاحق حزبٌ يساري المتهربين عن دفع الضرائب؟». 80? من ثروات البلاد هرّبتها إلى الخارج بضعة آلاف عائلة يونانية، والمشكلة كيف يمكن استعادتها من دون دعم الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي؟ وبالنسبة لليسار اليوناني والعالمي «الحياة مشكلة، والموت وحده ليس مشكلة، فإذا كنت حياً شِّدْ حزامك، وابحث عن المشاكل»، يقول ذلك بطل رواية «زوربا اليوناني».