لاشك أن الإعلام صار قوة جبارة في صناعة التغيير، فإن عمل وفق تصور حر خلاق، لا يقتصر على الدعاية السياسية الرخيصة أو الترفيه الفارغ الذي يلهث وراء العابر والاستهلاكي، فبوسعه أن يسهم في تعميق الثقافة والنهوض بالعملية التعليمية، ليس من خلال برامج مدرسية أشبه بالدروس الخصوصية فقط، وإنما من خلال برامج هادفة تعزز المعرفة بشتى ألوانها، وتمكن الفرد من امتلاك مهارات التفكير والنقد والحوار. ولا يمكن أيضاً في هذا المضمار أن نهمل الإعلام الجديد، ولاسيما مواقع التواصل الاجتماعي، التي عملت على تعزيز حرية التعبير، ولكنها على النقيض من ذلك زادت أيضاً من مساحات صناعة الكراهية وإطلاق الدعاية السياسية الفجة والشائعات والسجال العقائدي ونشر الفكر المتطرف وتجنيد الإرهابيين وتشويه المختلفين في الرأي والموقف. والمشكلة أن الإدارات الحكومية في بعض الدول العربية قد تستعملها في الرد على خصومها أو شن حرب نفسية عليهم أو توجيه المجتمع وتكبيله، فإن انتبهت إلى توظيفها في تعميق الوعي والتصدي للتطرف وتعزيز القدرة على الحوار وتفريغ الطاقات الغضبية بشكل علني سلمي، سيكون هذا أجدى، ووقتها يمكن لهذه المواقع أن تلعب دوراً ثقافياً وتعليمياً حقيقياً. وفي الحالين، سواء الإعلام التقليدي أو الجديد، فإن التعويل عليه في نشر الثقافة، في قيمها ومقولاتها ومضامينها التي ترمي إلى الارتقاء بالمعيشة، مسألة تحتاج إلى اهتمام ورعاية، لم تحظ بها في الماضي، لجهل أو غفلة أو على الأقل عدم دراية بأهمية الثقافة في التمهيد للتطور المادي، وأن المعاني يجب أن تسبق المباني. وهذا الدور المنتظر أو المأمول ينبغي ألا يقف عند حدود تثقيف الإعلاميين الحاليين، الذين يعاني بعضهم من ضحالة الفكر وضبابية في الرؤية وانحياز إلى العابر والسطحي والسلطوي وما يعود عليهم بالنفع الذاتي، ولا حتى بدفع مثقفين ليقدموا البرامج، أو يكونوا ضيوفاً دائمين في برامج جاذبة، وإنما بوجود استراتيجية لتعزيز الثقافة بمعناها العام والواسع، الذي لا يقتصر على اعتبارها الكل المركب أو المعقد من الآداب والفنون والمعاني والرموز التي تخاطب العقل والوجدان، وأيضاً الطقوس وطرائق العيش، التي تتسم بالخصوصية، وتؤمن بالتنوع الخلاق ليس فقط في الأفكار والتوجهات بل أيضاً في التدابير والتصرفات، الآني منها والموروث. ولكن الوصول إلى الحد الأدنى من هذا المطلوب والمأمول لم يعد مقبولًا لدى بعض من يمتلكون أجهزة الإعلام، سواء كانت الدولة أو رجال المال والأعمال، فالأولى ليست معنية بزيادة الجرعة الثقافية، لأنها ترى أن تعميق الوعي لدى قطاع عريض من الناس قد ينبههم أكثر إلى حقوقهم، ويدفعهم إلى الحركة في سبيل تحصيلها أو انتزاعها. كما أن مالكي الأموال قد يتوحدون مع الدولة في هذا الاتجاه، غير معنيين بتوعية الناس أو النهوض بأحوالهم الثقافية والمعرفية، حتى لا تتفتح أذهانهم على ما لهم من حقوق. كما أن هؤلاء بحكم تكوينهم النفسي والذهني وخبرتهم العملية قد يميلون إلى الاستهلاكي والمظهري وما يسلك الطريق الأقصر نحو الربح الوفير، ومن هنا تخرج الثقافة من حساباتهم. ومن بين هؤلاء يأتي صانعو الإعلانات وممولوها، الذين يميلون بحكم المنفعة والوظيفة إلى البرامج الخفيفة التي تجذب أكبر عدد من المشاهدين بغض النظر عن مضمونها، ولا دورها في زيادة الوعي أو الدفاع عن المصلحة العامة، ولم يعد هؤلاء يكتفون بالتعليق على البرامج أو التقدم بطلبات جزئية تخصها، وإنما قد يطلبون برامج بعينها، ويتدخلون في تحديد المضمون ومن يقدمه، وبأي طريقة. وعلى الوجه الآخر، يتحمل المثقفون أنفسهم، جزءاً من المسؤولية، فقد فشلوا في الغالب الأعم في تقديم الثقافة بلغة يسيرة على الأفهام، في مجتمعات تعاني من الأمية الأبجدية أصلًا، ناهيك عن الأمية الثقافية والسياسية والتقنية. كما أنهم ضيقوا مفهوم الثقافة ليقصروه على الآداب والفنون والعلوم النظرية، ولم يتمكنوا حتى الآن من تقديم ثقافة تمشي على الأرض، وتعايش الناس، وتشاطرهم أفراحهم وأتراحهم. وكل هذه عوامل جعلت إعلامنا بلا ثقافة، في وقت نعول عليه في أن يعبر بنا مشكلة تردي الوعي في مجتمعنا، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فعلى الإعلاميين أن يتثقفوا أو يفتح مالكو وسائل الإعلام الباب لأصحاب المعرفة ليصلوا إلى الناس بغزارة عبر الصفحات والشاشات والميكروفونات.