التصالح مع النفس والاعتراف بالخطأ، ولو بعد حين، هما من سمات الديمقراطيات الغربية العريقة. وهذه القيمة العظيمة، التي جسدتها بريطانيا مؤخراً بإقامة تمثال داخل ساحة برلمانها لأحد أبرز خصومها التاريخيين، بل الرجل الذي دق المسمار الأول في نعش ما كان يعرف بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ونجح في انتزاع الدرة الأكثر لمعاناً وتوهجاً من التاج البريطاني، هي قيمة أحوج من يكون إليها اليوم هم العرب، وليس سواهم، بعدما عمّتْ النوازع الشريرة بعض ديارهم وتمكنتْ آفة الحقد والكراهية والضغينة والانتقام من نفوس بعضهم، وسيطرتْ لغة البارود والمدفع على سماواتهم. ففي يوم السبت (14/3/2015) الذي صادف الذكرى المئوية لعودة الزعيم الهندي المهاتما غاندي إلى بلاده من جنوب أفريقيا لبدء كفاحه الفريد ضد بريطانيا من أجل الحرية والاستقلال، قام رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون (برفقة وزير المالية الهندي «أرون جايتلي» ونجم نجوم السينما الهندية «أميتاب باتشان» وحفيد غاندي «غوبال كريشنا غاندي») بإزاحة الستار عن تمثال لغاندي وصل ارتفاعه إلى 2,7 متر، وبلغت تكاليف صناعته نحو مليون جنيه إسترليني، وصممه المثال البريطاني فيليب جاكسون- سبق أن صمم تمثالًا لملكة بريطانيا الأم- من وحي صورة غاندي وهو على درج مقر رئاسة الحكومة البريطانية «داوننيغ ستريت» في عام 1931 أثناء الزيارة التي التقى خلالها الملك جورج الخامس، حيث جاء غاندي نصف عار متكئاً على عصاه وحين سُئل عما إذا كان يشعر بأن ملابسه غير كافية أجاب: «الملك يرتدي ثياباً تكفي كلينا»! وفي هذه المناسبة ألقى كاميرون كلمة بليغة حملتْ الكثير من المعاني والدلالات التي تصلح لأنْ تكون إلهاماً لنا في حاضرنا البائس المشبع بلغة الموت. فقد قال إنّ نهج اللاعنف الذى تبناه غاندي سيتردد صداه إلى الأبد كإرث إيجابي ليس فقط بالنسبة لبريطانيا والهند، ولكن للعالم ككل، ثم وصف غاندي بالرجل صاحب البصيرة العميقة، وأشاد بالهنود الذين استقروا في بريطانيا، قائلاً: «أُفكر بمليون ونصف المليون هندي بذلوا جهداً كبيراً حتى تصبح بريطانيا على ما هي عليه الآن. وأفكر أيضاً في كيفية انتهاجنا لرؤية غاندي حول تعايش العقائد المختلفة في انسجام». لكن لندع كل هذا جانباً ونتوقف أمام أمر آخر شدّ انتباه كثيرين هو المكان الذي نـُصب فيه تمثال الزعيم الهندي بالقرب من برج ساعة «بيج بين». ففي هذا المكان الذي يضم تماثيل لشخصيات تاريخية شهيرة مثل نيلسون مانديلا وأبراهام لينكولن، تم وضع التمثال البرونزي لغاندي عمداً إلى جوار تمثال السير ونستون تشرشل أشهر رؤساء حكومات بريطانيا على الإطلاق، وكأنما أريد للزائر أو المشاهد أنْ يتأمل تمثالين لعدوين لدودين مختلفين في كل شيء (وإنْ تشابها في أمر واحد هو تحقيق كل منهما النصر ضد عدوه بأسلوبه الخاص): غاندي المحامي الهندوسي المتدين الزاهد ذو الجسم النحيل والملابس البسيطة وصاحب العصا والمغزل اليدوي والشاة وحملات الاحتجاجات السلمية والدعوة إلى الإضراب في مواجهة جبروت المستعمر، والرجل الذي علم أمته أنّ النصر آتٍ لا محالة بالصفح والتسامح والمغفرة، وتشرشل السياسي والضابط والكاتب والمؤرخ والفنان، سليل أسرة سبنسر الأرستقراطية، صاحب الجثة الضخمة والسيجار الفاخر والملابس الباذخة والأنفة والغطرسة الإنجليزية المعروفة والخطط العسكرية والسياسية التي حقق بها النصر لبلاده على ألمانيا النازية وحلفائها. وهكذا، وبفضل انتهاج سياسة نسيان الماضي وهجر خطب الكراهية والعنصرية والدمار والمظلومية الزائفة والشعارات الكاذبة كسبيل نحو مستقبل يعمه الود والسلام والتعاون، نجد غاندي الذي قاد أكبر ثورة ضد الاستعمار في التاريخ بأقل التكاليف، وسحر العالم وكسب احترامه بتواضعه وزهده وعفوه الدائم عن خصومه، والذي قال ذات يوم: «إني أوثر الانتظار أجيالًا وأجيالًا، على أن ألتمس حرية شعبي بالاكاذيب»، يواجه في ساحة البرلمان البريطاني -بعد سبعة عقود من اغتياله على يد شاب موتور- خصمه تشرشل الذي عارض عصيانه السلمي في ثلاثينيات القرن الماضي، وتنبأ خطأ بأنه سيموت جوعاً إنْ أضرب عن الطعام، ورفض أي عدول عن فكرة تبعية الهند للسيادة البريطانية. بل إن تشرشل تمنى الموت لغاندي بطريقة بشعة. إذ جاء في مذكراته أنه تمنى أنْ يــُسحق غاندي تحت أقدام فيل هندي ضخم عقاباً له على تصديه للوجود البريطاني في شبه القارة الهندية.