سيتذكر الأميركيون شهر مارس الماضي على أنه يمثل اللحظة التي فقدت فيها الولايات المتحدة دورها كضامن للنظام الاقتصادي العالمي. وتغمرني القناعة بأنه ما من حدث على الإطلاق منذ فترات الإحباط التي مرّت بها الولايات المتحدة بعد توقيع اتفاقية «بريتون وودز» التي تأسست في أواسط القرن العشرين لتنظيم العلاقات التجارية والمالية بين الدول الصناعية، يمكن أن يُقارن بمحاولة الصين تأسيس منظومة مالية عالمية جديدة، وفشل الولايات المتحدة في إقناع العشرات من حلفائها التقليديين بالامتناع عن التعامل معها. وقد يكتب لهذا الفشل في اتباع استراتيجية فعّالة ووضع الأطر والتكتيكات اللازمة للتصدي لهذه المتغيرات، أن يدوم طويلاً، وأن يدفع الولايات المتحدة إلى القيام بمراجعة شاملة تهدف إلى وضع تقييم دقيق لدورها في الاقتصاد العالمي. وبعد أن أصبح الاقتصاد الصيني ينافس نظيره الأميركي من حيث الحجم، وأصبحت الأسواق الصاعدة تستحوذ على ما يقارب نصف الناتج الإجمالي العالمي، بات الاقتصاد العالمي ذاته بحاجة ماسة لإجراء إعادة تقييم شاملة. إلا أن الضغوط السياسية الأميركية تقوّض هذا المسعى بشكل متزايد. ويقع الذنب الأساسي في هذا القصور للمقاومة التي يبديها اليمين الأميركي المتطرف ضد تصحيح الأمور ووضعها في نصابها، حتى أصبحت الولايات المتحدة تنفرد من بين دول العالم أجمع من حيث فشلها في العمل على وضع بنود إصلاح وتطوير صندوق النقد الدولي موضع التنفيذ على رغم أنها هي ذاتها التي أشرفت على وضع تلك البنود في عام 2009. ولا شك أن تكامل وإدماج الموارد العالمية لصندوق النقد الدولي سيعيد الثقة في الاقتصاد العالمي، ويضع حدّاً لموجات الركود المتكررة التي يشهدها العالم. ولعل الأهم من ذلك هو أن من شأن هذا التوجّه أن يمهّد لمنح دول مثل الصين والهند الحق في التصويت ضمن منظومة صندوق النقد الدولي، وبما يتفق مع ثقلها الاقتصادي الكبير. وفي الوقت ذاته، أدت الضغوط القوية لليسار السياسي الأميركي أيضاً إلى وضع حزمة معيقة من الضوابط والمحاذير على مشاريع تشييد البنى التحتية الممولة من طرف البنوك التنموية العالمية. وكانت مواقف الولايات المتحدة غير المحبذة التي تدعم سياسة التصدي لمشاريع مشاركة المؤسسات المالية الإقليمية الجديدة في النظام المالي العالمي، قد دفعت الصين نحو تأسيس «البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية» AIIB. ويدور الآن في أروقة الصناعة المالية الأميركية جدل حول الأهداف التكتيكية التي يجب تبنّيها تجاه ذلك، وعلى القيادة السياسية في الولايات المتحدة أن تعمل على إنشاء مؤسسة مالية جديدة ومنفتحة يمكنها أن تضع المصالح العليا للولايات المتحدة فوق كل اعتبار. وما دامت واشنطن مصرّة على رفضها التعامل مع الصناديق الإقليمية التي بدأت تتخذ طابعاً عالمياً، فلن تكون في وضع يسمح لها بالمساهمة الفعالة في تشكيل النظام المالي العالمي الجديد وفقاً لمصالحها. ولا يمكننا أن نتوقع الحفاظ على الدور الطليعي للدولار في النظام المالي العالمي إذا واصلنا اتباع سياسات ذات طابع عدائي. ولابد من الإشارة هنا إلى أن الطبقة الوسطى تشكل الغالبية العظمى من سكان الدول الصناعية والبازغة. ولهذا السبب، يمكن القول إن كل المبادرات التي لا تصبّ في مصلحتها لن يكون مقدّراً لها النجاح على المدى البعيد. ونحن نتجه نحو عالم تلعب فيه رؤوس الأموال دوراً أساسياً. وستكون الأفضلية في المستقبل لتشجيع الاستثمار والانفتاح بدلاً من تشجيع الانعزالية والتشدد في وضع الضوابط والإجراءات المعيقة لذلك. ونحن نرى الآن كيف أن النظام المالي العالمي يضع العبء الأكبر فوق كاهل الدول المقترضة للأموال، فيما يتطلب العالم الذي نعيشه نظاماً متوازناً تتحمل فيه الدول المقرضة ذاتها جزءاً من العبء. ولا تمثل هذه الوصايا المذكورة إلا البداية لأن هناك الكثير من القضايا ذات العلاقة بالموضوع التي تتطلب البحث والتمحيص مثل الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون بين اللاعبين الحكوميين وغير الحكوميين في مجال تنشيط الاستثمار والمساهمة في تطوير المنظمات المالية العالمية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»