ربما في استجابة لمطالبة «بيل جيتس» لحكومات الدول بتخصيص المصادر لإنشاء ما يمكن أن نطلق عليه «الفيالق الطبية» (Medical Corps)، كي تُفعّل، وتُطلب للخدمة، في مواجهة الأوبئة الطارئة، شرعت منظمة الصحة العالمية في إنشاء وبناء، سجل خاص، أو لائحة عالمية، من فرق الإغاثة الطبية (Global Foreign Medical Teams Registry)، كي تستدعى، وتوظف، ليس فقط في مواجهة الأوبئة الطارئة، بل أيضاً في حالات الكوارث الوطنية والإقليمية واسعة المدى. ويشترط هذا السجل، لإدراج فريق طبي ضمن أعضائه، حداً أدنى من المعايير المهنية، ومن القدرات الفنية لأفراده، ووصفاً تفصيلياً لمهاراتهم وتخصصاتهم، وللخدمات التي يمكن أن يقدموها، للمجتمعات والدول التي أصابتها نكبة، أو ضربتها كارثة. ويؤمل أن مثل هذا السجل، أو قاعدة البيانات، سيتيح سبلاً أسرع في الاستجابة، ودرجة أكبر من التعاون والتنسيق، بين مانحي المساعدات الطبية، وبين متلقيها ومحتاجيها، في حالات الطوارئ، والأزمات، والكوارث. وبالفعل تم استخدام هذا السجل، في منتصف شهر مارس الماضي، عندما ضرب إعصار «بام» مجموعة جزر «فانوتو» الواقعة في جنوب المحيط الهادي. فبعد يومين فقط من مرور الإعصار بالجزر، مخلفاً وراءه دماراً واسع النطاق، وعدداً غير محدد حتى الآن من القتلي، وصل أول فريق إغاثة طبي من أستراليا. ومنذ حينها، وصلت عشرين فريق إغاثة طبي أخرى، تضمنت أكثر من خمسين طبيباً، وأربعين ممرضة، وأربعة وعشرين طاقم إسعاف، واثني عشر قابلة، لتقديم المساعدة والعلاج للسكان المحليين. ولا زالت فرق الإغاثة الطبية تتوافد على الجزر، وبعضها حتى عن طريق القوارب والبواخر، إما لدعم الفرق الموجودة على الأرض، أو لإحلالها. وتمت هذه العملية برمتها، تحت إشراف منظمة الصحة العالمية، وبالتعاون والتنسيق التام مع وزارة الصحة لـ«فانوتو». وذلك على النقيض من الاستجابة الطبية العالمية لكوارث أخرى، مثل الزلزال الذي ضرب جزر «هاييتي»، أو التسونامي الذي عصف بالعديد من دول جنوب آسيا. ففي هاتين الكارثتين، وصلت فرق الإغاثة الطبية، دون تنسيق مع الجهات الصحية المحلية، وحتى أحياناً دون علمها، ودون التنسيق مع بعضها بعضاً، على نوعية الخدمات التي يمكن أن يقدمها كل فريق، أو منطقة العمل. حيث كثيراً ما تواجدت عدة فرق في المنطقة نفسها، بينما غابت المساعدة الطبية تماماً عن مناطق أخرى بالمرة، كانت في أمسّ الحاجة لأية مساعدة أو إغاثة ممكنة. ومما زاد الطين بلة، وعلى رغم النوايا الحسنة لجميع أفراد الطواقم الطبية العالمية التي هرعت للمساعدة، إلا أن بعض أفرادها كانوا يفتقدون المهارات المطلوبة في زمن الكوارث، وظروف الطوارئ. كما لم يكن الكثير منهم على دراية بالظروف والأوضاع المحلية، أو بمعايير ونظم الاستجابة العالمية للطوارئ، هذا بالإضافة إلى أن بعضهم أحضر معه أجهزة ومعدات، غير ملائمة أو مناسبة لاحتياجات المجتمعات المحلية. وبوجه عام، تتكون فرق الإغاثة الطبية الأجنبية من أفراد الطاقم الطبي، بمختلف تخصصاتهم، من أطباء، وممرضين، الذين يهرعون من بلادهم، إلى أماكن الأزمات والكوارث، لمساعدة المرضى والمصابين، وخصوصاً من الأطفال والنساء والمسنين. ويدعم، ويمول هذه الفرق -التي غالباً ما يقدم أفرادها خدماتهم دون مقابل مادي- الحكومات، والجهات والهيئات الخيرية غير الحكومية، والقوات المسلحة للدول المختلفة، وبعض المنظمات الدولية المتخصصة، مثل الهلال الأحمر والصليب الأحمر. ومؤخراً أصبحت هذه الفرق، تعمل وتوظف، ضمن معايير وإجراءات محددة، تضعها منظمة الصحة العالمية وشركاؤها، لضمان كفاءة وفعالية عمليات الإغاثة، وحتى لا تصبح هذه الفرق نفسها، عبئاً على نظم الرعاية الصحية المحلية. ويأتي هذا التطور المهم في سياسة إدارة الاستجابة العالمية للكوارث والأزمات، في وقت تزايد فيه الإدراك بأن فداحة الثمن الإنساني الناتج عنها، يتوقف إلى حد كبير على درجة استعداد المجتمع البشري الواقع في أتونها. وهذا المفهوم تعبر عنه بدقة، المقولة الشهيرة بأن «الكوارث تنتج عندما يلتقي الخطر بالضعف». وتحدث الطامة الكبرى، أو كارثة الكوارث، عندما تتحالف الكوارث الطبيعية مع الأوبئة المرَضية، ليشكلا ما يعرف بوفيات ما بعد الكارثة (post-disaster death) التي لا تنتج عن الكارثة مباشرة، ولكن عن التبعات التي تليها. وعلى رغم أن هذه التبعات تختلف أشكالها، وتتنوع أساليبها في التسبب في المزيد من الوفيات، إلا أن انتشار الأمراض المُعدية هو أكثر أساليبها وطأة، وأشد أسلحتها فتكاً. وهو ما يجعل من تنسيق سبل التعاون بين فرق الإغاثة الطبية بعضها مع بعض، وبينها وبين السلطات المحلية، وتحديد معايير لكيفية أدائها لعملها ومهمتها، أحد أفضل خطوط الدفاع ضد تبعات الكوارث، ومن أفضل السبل لخفض الوفيات الناتجة عنها.